لماذا يحتفظ المصريون بأموالهم في بيوتهم؟ أزمة ثقة ومعاناة مصرفية تبحث عن حلول
المال في “الدرج”.. لا في البنك
كتب: محمد حلمي الحساني
رغم توسع قطاع البنوك في مصر وانتشار فروعه، لا يزال قطاع واسع من المصريين – سواء أفرادًا أو شركات – يفضل الاحتفاظ بجزء كبير من أموالهم في بيوتهم، بعيدًا عن الحسابات البنكية أو المعاملات الرسمية. هذه الظاهرة ليست فقط سلوكًا نابعًا من الحذر أو العادة، بل هي نتيجة مباشرة لمجموعة من المعوقات التي تحيط بالتعاملات المصرفية اليومية في مصر، من التعقيد البيروقراطي إلى ضعف البنية التكنولوجية، ومن مركزية القرار إلى بطء التحول الرقمي.
الحادثة الأخيرة لسرقة فيلا الدكتورة نوال الدجوي – سيدة الأعمال المعروفة – والتي احتُجز منها مبلغ مالي كبير داخل منزلها، أعادت فتح هذا الملف الحساس، وطرحت تساؤلًا جوهريًا: لماذا لا تزال شريحة واسعة من المصريين تفضل تخزين أموالها نقدًا في البيوت، رغم المخاطر؟

عقبات يومية تدفع للهروب من البنوك
حين يتوجه المواطن المصري إلى أحد البنوك، يواجه سلسلة من التحديات المعروفة:
- طوابير طويلة واكتظاظ دائم
- إجراءات مرهقة ومعقدة للحصول على أبسط خدمة
- تعقيد في فتح الحسابات أو إجراء التحويلات أو حتى سحب مبالغ بسيطة من الحساب
- فجوة رقمية واضحة رغم الحديث عن “التحول الرقمي”
المعاناة لا تقتصر على الأفراد فقط، فالشركات والمستثمرون يشتكون من:
- صعوبة تدبير السيولة سواء بالجنيه أو بالدولار بعضها للاذحام او تأخر قرار الموافقة
- تأخر في تنفيذ التحويلات البنكية، خاصة التحويلات الدولية اذ يحتاج الى موافقات كثيرة
- تأجيل العمليات البنكية الرقمية تحت حجج “النظام معطل” أو “ننتظر موافقة المركز الرئيسي”
- إجراءات صارمة لشراء العملات الأجنبية قد تستغرق أيامًا أو تتطلب تدخلات خاصة
وكلما طُرح سؤال: “لماذا لا تستخدمون البنوك؟”، كان الرد حاضرًا: “نخشى ألا نستطيع التصرف في أموالنا عند الحاجة إليها”، نعاني كثيرا في ايداعها بسؤال مصدر هذه الاموال،،، ونعاني في سحبها من البنوك خصوصا لو مبالغ كبيرة ،، بسؤال لماذا التحويل او لما هذا المبلغ الكبير ، او .
البيروقراطية… أزمة تتفاقم
القطاع المصرفي المصري لا يعاني فقط من ضعف في الخدمات، بل من عقم بيروقراطي تجذر في ثقافة العمل الداخلي بالبنوك.
تعدد التوقيعات، الحاجة لموافقات من الإدارة العليا، الاشتراطات المعقدة، الخوف من الرقابة، وتنازع الصلاحيات بين الفروع والإدارة الرئيسية، كل ذلك جعل تجربة العميل مع البنوك مرهقة ومستنزفة.
حتى البنوك الأجنبية العاملة في مصر تجد نفسها مقيدة بالقوانين المحلية واشتراطات البنك المركزي، ما يمنعها من تقديم نفس مستوى الخدمة الذي توفره في دول أخرى. وتُضطر هذه البنوك إلى التضحية بجزء من كفاءتها لتتوافق مع أنظمة تعود لعقود ماضية، لم تعد تتماشى مع تطور التكنولوجيا المالية.
التحول الرقمي.. الحاضر الغائب
رغم الحديث الحكومي المتكرر عن “التحول الرقمي”، لا يزال التطبيق بطيئًا. العاملون في هذا المجال بالبنوك المصرية – خاصة الحكومية – غالبًا ما يفتقرون إلى الدراية الكافية بالتقنيات الحديثة.
منصات الخدمات الرقمية متعثرة، والتطبيقات البنكية تعاني من الأعطال، والتكامل مع الجهات الأخرى غائب أو هش. النتيجة؟ مزيد من الإحباط وفقدان الثقة.
الاقتصاد الموازي.. نتيجة أم سبب؟
وجود اقتصاد موازٍ أو غير رسمي – يقدّر بنحو 40% من الناتج المحلي بحسب تقديرات غير رسمية – هو أحد الأسباب أيضًا وراء الاحتفاظ بالسيولة خارج النظام المصرفي.
التعاملات خارج البنوك تتيح مرونة أكبر، بعيدًا عن الضرائب، والرسوم، والمراقبة، والقيود البيروقراطية. لكن المشكلة أن هذا الاقتصاد المزدوج يُضعف قدرة الدولة على التخطيط الاقتصادي، ويؤثر سلبًا على الاستقرار المالي.
الطريق إلى الحل: هل من إصلاح ممكن؟
لا يمكن الحديث عن دمج الأموال في الجهاز المصرفي دون إصلاح جذري يمر عبر:
1. تحديث القوانين المصرفية
قوانين التمويل، التحويلات، العملات الأجنبية، وفتح الحسابات، يجب أن تُراجع وتُحدّث لمواكبة المتغيرات العالمية، بدلًا من الالتصاق بأنظمة عفى عليها الزمن.
2. تبسيط الإجراءات
جعل الخدمات البنكية سهلة وسلسة وواضحة، وتقليص التوقيعات والموافقات، ومنح الفروع مرونة في اتخاذ القرار.
3. إصلاح أنظمة المشتريات والرقابة في البنوك
الأنظمة الحالية قديمة وغير مرنة، وتُعيق تحديث المنصات الرقمية أو إدخال أدوات مالية حديثة.
4. إعادة بناء الثقة
يجب أن يشعر المواطن بأن أمواله آمنة ويمكن الوصول إليها بسهولة. حملات إعلامية توعوية لا تكفي، بل يجب أن تترجم على الأرض بخدمة متقدمة وسريعة.
5. تسريع التحول الرقمي الحقيقي
بناء أنظمة مالية رقمية حقيقية (وليس شكليًا)، وتدريب الكوادر المصرفية على أحدث الأدوات التقنية العالمية.
6. دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة
بإتاحة التمويل المبسط، وتقليل التعقيدات، وتوفير السيولة دون شروط تعجيزية.
ومما سبق نستطيع القول
ان الاحتفاظ بالأموال في البيوت ليس عادة عشوائية، بل هو انعكاس لأزمة أعمق في الثقة والتجربة البنكية.
الإصلاح يبدأ من الاعتراف بالمشكلة، والانتقال من الوعود إلى الأفعال.
وإلى أن يتحقق هذا التغيير، ستبقى خزائن المنازل بديلًا آمنًا – ولو خطرًا – عن خزائن البنوك.