خبراء يحذرون من تعويم جديد للجنيه…ابتلع الطبقة المتوسطة في مصر؟
لم يكن قرار تحرير سعر صرف الجنيه المصري مفاجئًا، ليس فقط بسبب ما سبقه من جدل وشائعات وتقلبات في سعر الدولار، ولا بسبب القرض الذي حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي وما يتضمنه من شروط، بل يعود الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير. فالنمط الاقتصادي السائد لم يكن ليحتمل أي نهاية أخرى، وتعتبر مناقشة هذا النمط بمثابة إجابة على السؤال المهم: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
يبدو أن أبناء الطبقة المتوسطة في مصر هم الأكثر تأثراً، حيث تعرضت طبقتهم لموجات متتالية من التعويم بشكل غير مسبوق. فرغم أن أفراد هذه الطبقة تحملوا قرارات الإصلاح الاقتصادي منذ منتصف السبعينيات وحتى التسعينيات، والتي تشبه إلى حد كبير الإصلاحات الحالية، إلا أن السرعة التي انزلق بها أبناء الطبقة المتوسطة في الوقت الراهن لم تحدث من قبل. فقد شهدت أنماط الإنفاق والاستهلاك والتوجهات الاقتصادية تغيرات كبيرة خلال بضع سنوات فقط.
شهد الحد الأدنى للأجور في مصر تغييرات ملحوظة منذ عام 2016، حيث ارتفع بنسبة تزيد عن 300% خلال 8 سنوات. فقد انتقل من 1400 جنيه (28.4 دولار) عند تعويم الجنيه في 2016 إلى 2000 جنيه (40.57 دولار) في عام 2019، ثم زاد إلى 2400 جنيه (49 دولار) في عام 2021 مع تطبيقه على القطاع الخاص في بداية العام. وفي منتصف عام 2022، ارتفع الحد الأدنى للأجور إلى 2700 جنيه (55 دولار)، ليصل حالياً إلى 6000 جنيه (122 دولار).
ومع ذلك، لا يُطبق هذا الحد الحالي على معظم العاملين في القطاع الخاص، على الرغم من الجهود المستمرة من الدولة، ممثلة في المجلس القومي للأجور التابع لوزارة التخطيط المصرية. إلا أن أصحاب الأعمال يواجهون هذه الدعوات بالتأجيل أو الرفض، مدعين أن شركاتهم تعاني من خسائر نتيجة ارتفاع تكاليف التشغيل وأعباء الصناعة.
هذا التدهور المستمر في قيمة العملة، الناتج عن طبيعة الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ منذ منتصف السبعينات، يشبه معركة سيزيف بسبب كثرة التشريعات والأنظمة التي أُصدرت، والتي يمكن أن تُروى قصتها في مجلدات تتناول تاريخ السياسة النقدية. إن هذا التدهور، الذي يعكس تضخمًا هيكليًا، له آثار متعددة تعمق من طبيعة النمط الاقتصادي وأزمته. من أبرز هذه الآثار هو تعزيز اختلال هيكل الاستثمار لصالح القطاعات الخدمية على حساب القطاعات السلعية، ولصالح الأنشطة الريعية على حساب الأنشطة الإنتاجية.
وهذا يؤدي إلى تفاقم الركود في الاقتصاد، حيث لا يتم خلق وظائف كافية، ولا يتم تلبية الطلب المحلي من السلع والخدمات، مما يزيد من الاعتماد على الخارج ويعمق العجز المالي محليًا والعجز التجاري خارجيًا، مما يؤدي إلى مزيد من تدهور العملة واستمرار هذه الحلقة المفرغة التي لا يمكننا استعراض جميع أبعادها المخيفة.
الأهم من ذلك، أن هذه الحلقة المفرغة المتعلقة بتدهور العملة، مع تأثيرها العرضي المتمثل في المضاربات على تلك العملة، تخلق ثقبًا أسود كبيرًا يبتلع أي احتياطيات من النقد الأجنبي تمتلكها الدولة، والتي تحاول استخدامها لدعم سعر صرف العملة الوطنية ومنع المزيد من التدهور، مما يؤدي في النهاية إلى استنزاف هذه الاحتياطيات.
يقول الدكتور هاني توفيق، المتخصص في الشؤون الاقتصادية، إن “الطبقة المتوسطة تعرضت لانهيار غير متوقع نتيجة للغلاء المتزايد وارتفاع تكاليف الحياة وزيادة الضرائب بمختلف أنواعها، بينما ظل الدخل ثابتًا أو ارتفع بمعدل أقل بكثير من معدل ارتفاع الأسعار الذي شمل جميع جوانب الحياة تقريبًا”. ويضيف: “كان أبناء الطبقة المتوسطة في أواخر السبعينيات وحتى الثمانينيات والتسعينيات قادرين على الإنفاق واستبدال سياراتهم القديمة بأخرى جديدة، كما كانت لديهم القدرة على دفع تكاليف تعليم أبنائهم في مدارس أجنبية، بل وكان بإمكانهم الادخار بعد تغطية تلك النفقات، وهو ما يفسر انتشار تأسيس شركات توظيف الأموال في تلك الفترة، رغم أن الدولة كانت تقوم بإصلاحات اقتصادية في الوقت نفسه”.
انهيار الطبقة المتوسطة يضر بالمجتمع
وأوضح توفيق أن القيمة الشرائية للجنيه المصري كانت أعلى في السابق رغم تراجع الرواتب والأجور، بينما شهدت القيمة الشرائية للجنيه حالياً تراجعاً غير مسبوق. وأشار إلى أن أبناء الطبقة المتوسطة هم الأكثر تضرراً من هذا الوضع، حيث تحولت سلع كانت تُعتبر أساسية بالنسبة لهم إلى سلع رفاهية. واعتبر أن انهيار الطبقة المتوسطة لا يخدم مصلحة المجتمع والاقتصاد المصري بشكل عام، مطالباً الدولة بالتدخل العاجل لدعم أبناء هذه الطبقة من خلال توفير أدوات وتسهيلات مالية، فرص عمل، والضغط على شركات القطاع الخاص لزيادة الرواتب والأجور.
زيادة أسعار السلع والخدمات والوقود فاق زيادة الأجور
وعلى رغم الزيادة الكبيرة في قيمة الحد الأدنى للأجور بأكثر من 300 في المئة في مصر، فإنه في المقابل كانت نسبة زيادة أسعار السلع والخدمات وأسعار الوقود ضعف زيادة الحد الأدنى للأجور أو أكثر في بعض السلع والخدمات تقريباً، فأسعار الوقود في مصر تحركت في غضون 10 سنوات بأكثر من 700 في المئة في الأقل.
قبل نهاية الشهر الماضي، أعلنت الحكومة المصرية عن زيادة أسعار المنتجات البترولية، والتي تشمل جميع أنواع البنزين والسولار والكيروسين والمازوت وغاز تموين السيارات، لتكون هذه الزيادة الثالثة خلال العام الجاري.
وقد ارتفع سعر ليتر بنزين 80 من 12.25 جنيه (0.252 دولار) إلى 13.75 جنيه (0.283 دولار)، بينما زاد سعر ليتر بنزين 92 من 13.75 جنيه (0.283 دولار) إلى 15.25 جنيه (0.314 دولار).
كما شهد سعر ليتر بنزين 95 ارتفاعاً من 15 جنيهاً (0.309 دولار) إلى 17 جنيهاً (0.35 دولار)، وزاد سعر ليتر السولار من 11.5 جنيه (0.237 دولار) إلى 13.50 جنيه (0.278 دولار). كذلك، ارتفع سعر ليتر الكيروسين من 11.5 جنيه (0.237 دولار) إلى 13.50 جنيه (0.278 دولار).
أما بالنسبة للمازوت، فقد تم تحديد سعره عند 9500 جنيه (196 دولاراً) للطن لبقية الصناعات، في حين تقرر تثبيت سعر المازوت المخصص للكهرباء والصناعات الغذائية.
زيادة أسعار الغاز المنزلي بنسبة 1650%
شهدت أسعار الغاز الطبيعي المخصص للقطاعين المنزلي والتجاري ارتفاعًا بنسبة 1650% للشريحة الأولى على مدى خمس سنوات.
بدأت الحكومة تنفيذ أولى خطوات زيادة أسعار الغاز كجزء من برنامجها لترشيد دعم الطاقة منذ عام 2014، حيث أصدرت خمس قرارات في هذا السياق، كان آخرها قبل أيام قليلة.
3.6 مليار نسمة من أبناء الطبقة المتوسطة على مستوى العالم
في عام 2018، بلغ عدد أفراد الطبقة المتوسطة أكثر من 3.6 مليار نسمة، مما يعني أن هذا الرقم قد تضاعف خلال عشر سنوات. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 5.3 مليار بحلول عام 2030.
يرتبط هذا النمو ارتباطاً وثيقاً بتطور الاقتصاد العالمي، خاصة في الدول الآسيوية، حيث يأتي أكثر من 90% من المنضمين الجدد إلى هذه الطبقة من تلك الدول. وأظهرت إحصائيات حديثة أن خمسة أشخاص ينضمون إلى الطبقة المتوسطة كل ثانية.
بالعودة إلى مصر، قام تقرير صادر عن مؤسسة “فيتش سوليوشنز” بتقسيم الأسر المصرية وفقاً للدخل المتاح للاستهلاك سنوياً إلى أربع فئات رئيسية. الفئة الأولى هي الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 5 آلاف دولار، بينما الفئة الثانية تشمل الأسر التي يتجاوز دخلها 5 آلاف دولار. أما الفئة الثالثة فهي تلك التي يزيد دخلها عن 10 آلاف دولار، في حين أن الفئة العليا تضم الأسر التي يزيد دخلها عن 50 ألف دولار.