هل حققت منطقة الشرق الأوسط التحول الي “العصر الرقمي الجديد” ؟
شهد العقد الماضي تطوراً تكنولوجياً سريعاً في مختلف الصناعات، ولم يكن قطاع البناء استثناءً من ذلك. في منطقة الشرق الأوسط، التي تضم مشاريع ضخمة ورمزية مثل نيوم ومشروع البحر الأحمر والقدية، يعيد التحول الرقمي تشكيل جميع مراحل البناء.
رغم التحديات العديدة، يتفق قادة الصناعة على أن اعتماد التقنيات الرقمية يعد أمراً أساسياً لمستقبل التنافسية والابتكار في المنطقة. والسؤال المطروح الآن هو: هل قطاع البناء جاهز للاستفادة الكاملة من هذه التطورات التكنولوجية؟
الرقمنة في مرحلة المناقصات
تبدأ الرقمنة في مرحلة المناقصات، حيث يصبح تحديد الأهداف بوضوح واختيار التقنيات المناسبة للمشروع أمراً بالغ الأهمية. وهنا تبرز أهمية منصات المناقصات الرقمية، التي حسّنت بشكل كبير من الشفافية والكفاءة في عملية المناقصات من خلال تقديم جميع العروض وتقييمها بشكل مركزي.
ما هي النتيجة؟ عروض أكثر دقة يتم تقييمها بشكل موحد في بيئة تنافسية. والفوائد هنا متعددة: بالنسبة للعملاء والمطورين، تبدأ المشاريع على أسس أقوى، بينما تصبح تفاصيل نطاق العمل أكثر وضوحاً للمقاولين. قد تكون هذه الأدوات الجديدة هي الحل للتغلب على أوجه القصور التي كانت تعاني منها العمليات السابقة.
هناك فوائد إضافية أيضاً. من الأهداف الرئيسية لرقمنة مرحلة المناقصات هو تعزيز الدقة والتعلم. تتيح الأدوات الحديثة إمكانية التحقق من الفرضيات خلال مرحلة المناقصات، مما يسهم في تحقيق نتائج أكثر دقة للمشاريع. يُعتبر التحقق من الفرضيات في وقت مبكر من العملية أقل تكلفة بكثير مقارنة بإجراء التعديلات خلال مرحلة البناء، مما يعزز الأرباح. علاوة على ذلك، تسهل الطبيعة الرقمية لهذه الأدوات عملية التقييم المستمر وتضمن نزاهة المقترحات. يمكن اعتبار النجاحات الأخيرة في المناقصات الرقمية، مثل مشروع “Qatar Rail” (سكك الحديد القطرية)، دليلاً على فعالية هذه الأدوات، حيث أدت إلى تحسينات ملحوظة في نتائج المشاريع. ولكن، هل تعني الرقمنة فقط العروض المركزية والتحقق من الفرضيات؟ ماذا عن الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة؟ قد يكون دمج هذه التقنيات الحديثة هو العامل الذي سيحدث ثورة في كيفية تصميم المشاريع والتحقق منها في المستقبل.
إدارة البيانات
تُعتبر البيئة المشتركة للبيانات (CDE) عنصراً أساسياً في التحول الرقمي لصناعة البناء. في الماضي، كانت CDE تعمل كمستودع مركزي لتخزين وإدارة ومشاركة المعلومات المتعلقة بالمشروع.
من المفاهيم التي أصبحت رائجة في الآونة الأخيرة هي “نمذجة معلومات البناء” (BIM)، حيث يتم تجميع البيانات الهيكلية من مجالات متعددة لإنشاء تمثيل رقمي للمشروع على مدار دورة حياته. لتنفيذ BIM بشكل فعال، يتطلب الأمر وجود بيئات بيانات شاملة تدمج بيانات BIM مع أنظمة إدارة المشاريع والمالية والتشغيل. يتيح هذا التكامل للمشاركين في المشروع الحصول على إشراف وإدارة شاملة، مما يسهم في تحسين الكفاءة وتقليل المخاطر.
إن دفع الصناعة نحو تعزيز نهج ديناميكي وتعاوني في إدارة البيانات يعكس التزامها بتحسين الكفاءة وزيادة الابتكار وتعزيز الاستدامة في تنفيذ المشاريع. ومع ذلك، على الرغم من الفوائد المعروفة، لا يزال التقدم يسير ببطء. في الواقع، غالباً ما يكون العملاء هم من يقودون عملية الرقمنة خلال مرحلة المناقصات من خلال فرض معايير ومتطلبات لمشاريعهم.
تُعتبر تنوع أنظمة مقاولي الباطن من العوامل الأساسية التي تعرقل عملية الرقمنة، حيث يمتلك كل طرف مستوى مختلفاً من النضج الرقمي، مما يزيد من تعقيد عملية التكامل. ومع ذلك، تُظهر دراسات الحالة الناجحة، مثل مشروع “مدينة الحبتور” في دبي، كيف يمكن للمبادرات التي يقودها العملاء أن تسرع من اعتماد التكنولوجيا الرقمية. كما أن برامج محو الأمية الرقمية والحوافز لتبني التكنولوجيا، بالإضافة إلى الحلول المبتكرة الأخرى، ستلعب دوراً حاسماً في التغلب على هذه التحديات.
الرقمنة في التصميم
تشهد مرحلة التصميم في دورة حياة المشروع الإنشائي تحولاً رقمياً ملحوظاً، حيث يتم استخدام تقنيات متطورة مثل نمذجة معلومات البناء (BIM) والتصميم والبناء الافتراضي، مما يسهل التعاون ويقلل من الأخطاء قبل بدء عملية البناء. بالإضافة إلى ذلك، فإن دمج الذكاء الاصطناعي مع أدوات BIM يعزز هذه القدرات بشكل أكبر. يُعتبر مشروع البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية مثالاً بارزاً على استخدام هذه الأدوات، حيث يهدف هذا المشروع الضخم إلى إنشاء وجهة سياحية فاخرة مع التركيز على الاستدامة والتقنيات الرقمية المتقدمة. يُعد المشروع رائداً في استخدام تقنيات BIM وتقنيات البناء المعياري لتحقيق دقة عالية.
ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، وأهمها مشكلة التوافق بين الأنظمة المختلفة. إن التوافق يعني القدرة على تبادل المعلومات بين الأنظمة البرمجية المختلفة بشكل فعال، وهو أمر ضروري لاستخدام تقنيات التصميم مثل BIM وضمان التنفيذ السلس للمشاريع.
تهدف مبادرات حديثة مثل “مخطط فئات الصناعة” (IFC) الذي أطلقته buildingSMART إلى معالجة هذه التحديات، ولكن اعتمادها بشكل واسع لا يزال قيد التطوير. تسهم التطورات الحديثة، مثل نهج “OpenBIM”، في تحسين التوافق عبر الصناعة. فهل سنرى قريباً مشهداً للبناء تتحدث فيه جميع الأدوات الرقمية نفس اللغة، مما يلغي أوجه القصور والأخطاء؟
التوافق ليس التحدي الوحيد، فجميع أصحاب المصلحة يجب أن يكون لديهم المهارات اللازمة لاستخدام الأدوات الرقمية بفعالية. في الواقع، أدى الاعتماد المتزايد على التقنيات المتقدمة في البناء إلى زيادة الطلب على المتخصصين المهرة. سد فجوة المهارات هذه سيتطلب وضع برامج تدريبية شاملة ومبادرات تعليمية.
هناك بالفعل أمثلة إيجابية في هذا المجال: على سبيل المثال، نجحت مبادرة “مهارات المستقبل” التي أطلقتها شركة أرامكو السعودية في تحسين قدرات القوى العاملة، كما بدأت المؤسسات الأكاديمية مثل الجامعة الأمريكية في دبي في تقديم درجات وشهادات متخصصة في تقنيات البناء الرقمي. يجب أن يستمر هذا التحول التعليمي ويتسارع لضمان استعداد القوى العاملة للمستقبل الرقمي.
الرقمنة في مرحلة البناء
مع تزايد اعتماد التقنيات الرقمية في مراحل المناقصات والتصميم، يمتد تأثيرها أيضاً إلى مرحلة البناء الفعلية. ورغم أن هذه المرحلة كانت تقليدياً مقاومة للتغيير، إلا أنها الآن تستفيد من ابتكارات مثل البناء المعياري، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والطائرات بدون طيار، والروبوتات. وعلى الرغم من وجود العديد من التوقعات حول هذه التطورات التكنولوجية، خاصة فيما يتعلق بكيفية تغييرها لأساليب تنفيذ المشاريع على أرض الواقع، إلا أن النقاش حول تأثيرها الفعلي لا يزال مستمراً. فإلى أي مدى يمكن أن يتجاوز تأثيرها مجرد الضجيج؟ وكيف يمكن أن تعيد تشكيل مواقع البناء؟
يعتبر التشييد المعياري والبناء المسبق من الأساليب الحديثة التي يتم فيها تجميع مكونات المبنى في بيئات مُتحكم فيها قبل نقلها إلى مواقع البناء. تكتسب هذه الأساليب زخماً لعدة أسباب، منها قدرتها على تقليل النفايات، وتسريع جداول المشاريع، وضمان معايير جودة أعلى، وتحسين السلامة. تشير الأبحاث إلى أن البناء المعياري يمكن أن يقلل من جداول المشاريع بنسبة تصل إلى 50% ويقلل من هدر المواد بنسبة تصل إلى 20%. تتطلع منطقة الشرق الأوسط إلى الاستفادة من هذه المزايا، مع خططها الطموحة لمشاريع مستقبلية.