هل تحولت الصراعات والحروب إلى استثمارات مربحة؟
منذ بداية وجود الإنسان، يمكن اعتبار الحياة على هذا الكوكب صراعًا مستمرًا لا ينتهي بين البشر، حيث يُعتبر السلام مجرد فترة استراحة قصيرة بين معركة وأخرى أكثر ضراوة.
لكن الحرب ليست مجرد صراع سياسي أو سعيًا نحو الحرية أو تكريس الاستعمار، وليست فقط مواجهة عنيفة بين أتباع دين واحد أو بين أديان مختلفة. فالحرب الخفية الدموية هي في الواقع حرب المال التي تدور بين رجال الأعمال والشركات العملاقة، التي تشبه مطاحن بشرية وحشية.
إن الحرب تمثل اقتصادًا مربحًا للغاية، اقتصادًا طموحًا وعنيفًا، يعتمد على رؤوس أموال ضخمة تُستثمر في “ذهب” الجثث و”لؤلؤ” الخراب. فكلما زاد عدد ضحايا الحروب من الأطفال والنساء والشيوخ، ارتفعت أرباح المتحاربين. وكلما انهار سقف منزل فوق عائلة أو احترقت شجرة معمرة في حديقة عامة، زادت ثروات رأسماليي الحروب وتزايدت الأرقام. وعندما تُسقط طائرات الذكاء الاصطناعي قذائفها المحرمة على الأطفال الذين يحبون كرة القدم والموسيقى، ترتفع أرباح الشركات العملاقة في مختلف أنحاء العالم.
في لعبة سباق إعادة الإعمار، نجد أن الشركات التي قامت بهدم المنازل مقابل فواتير باهظة، تعود الآن لتعيد بناءها بأسعار مرتفعة أخرى. إنهم نفس الممثلين الذين يتواجدون في مسرحية الهدم، ويشاركون أيضًا في مسرحية إعادة البناء. تلك الشركات تتقاضى أجرها مرتين: الأولى عندما تستدعي الآلة الحربية العمياء وذخائرها لتدمير الأرواح، والثانية عندما تحضر آلات جديدة لرفع الأنقاض عن الجثث وجلب الأسمنت والخرسانة لإعادة بناء ما تم تدميره بالأمس. ودائمًا ما تكون في انتظار حلم حرب قادمة لن تتأخر.
شركات الإعمار تبني لتكون هناك حروب مبرمجة في المستقبل لتقوم بعمليات الهدم، بينما شركات الحروب تساهم في الخراب لتجد شركات الإعمار ما تحتاجه من إعادة بناء. هكذا يتنظم العالم بدقة بين مهام القتل، والخراب، وإعادة البناء.
في زمن الحروب، يبيع بائع الورد زهوراً للأموات، ويقدم النساج القماش الأبيض لتكفين الجثث، بينما يبيع البحر مياهه المالحة لصنع دموع الأمهات. السياسي يروج لخطاب ثوري للمواطن البسيط ليمنحه انتصاراً زائفاً، ورجل الدين يبيع دعوات لا تصل إلى السماء. في الحروب، كل شيء يُباع وكل شيء يُشترى بأسعار السوق السوداء.
كل ما فينا يجذبنا نحو الحرب أكثر من الحياة، حتى آدابنا تجد في تصوير الحروب متعة وإثارة تفوق تصوير الحب أو السلام. تُمنح أكبر الجوائز للروايات التي تتناول الحروب، وتُخلد أعظم الأسماء الأدبية من خلال نصوص تتحدث عن الصراعات. شعراؤنا الكبار ارتبطت أسماؤهم بالحروب، والعظماء من صناع التاريخ خُلدوا في ذاكرة البشرية بفضل الحروب العنيفة.
السلام لا يخلق كاتباً بارزاً أو مخرجاً سينمائياً عظيماً، بل الحروب هي التي تصنع العظماء، بدءاً من “الحرب والسلم” لتولستوي، مروراً بـ”الشيخ والبحر” لهيمنغواي، و”صمت لأجل غزة” لمحمود درويش، وصولاً إلى جياب وحرب ديان بيان فو. لذا، لا تتعجبوا من تنافس الشركات على الاستثمار في الحروب.
الحروب تُصنع بتوقيعات على شيكات بنوك تتجاوز القارات، توقيعات تُرفع فيها أنخاب الأرباح قبل أن تُوقع شيكات أخرى لرفع أنقاض الدمار.
لقد جعلت البنوك العالم يعيش الحرب كحياة طبيعية، بينما يُعتبر السلام لحظات غير طبيعية. السلام هو استراحة بين حربين، واستعداد لحرب قادمة لن تتأخر.
نحن العرب والأفارقة ما زلنا نعيش في زمن الفروسية، حيث لا نستطيع خوض معركة السلام الناجحة، ولا نملك القدرة على الانخراط في حرب الذكاء الاصطناعي. فمثل هذه الحرب تتطلب استعدادًا كبيرًا، وهذا الاستعداد يتطلب وجود جيش من العلماء قبل أي جيش آخر يقود الدبابات والطائرات والغواصات. للأسف، نحن أمة لا تقدر العلم، بل تنظر إليه باحتقار وتعتبره نوعًا من الكفر والزندقة. إن موازناتنا المخصصة للبحث العلمي تبدو هزيلة للغاية مقارنة بما تخصصه دول أخرى لمختبراتها وعلمائها في مجالات الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والصناعة، سواء المدنية أو العسكرية، بالإضافة إلى الاقتصاد والفنون والسينما.