البيجر يعيد زمن الاتصالات القاتلة ….هل يصنع الشرق نظم اتصالات مستقلة عن الغرب؟
الحادث أظهر الحاجة الملحة لإنشاء نظم اتصالات مستقلة للدول العربية والإسلامية،
شهدت لبنان هجومان كبيران ومنسقان في يومي 17 و18 سبتمبر/أيلول 2024، استهدفا أجهزة الاتصال الإلكترونية “بايجر” التايوانية و”أيكوم” اليابانية، في أحدث عمليات التفخيخ.
وأشار مراقبون إلى أن الاحتلال الإسرائيلي تمكن من اختراق سلسلة التوريد الخاصة بالشركة التايوانية، مما أدى إلى العبث بأجهزة “بايجر” أو استبدالها بأخرى مفخخة تحتوي على متفجرات وصواعق قبل وصولها إلى لبنان.
كما تم اختراق أجهزة “أيكوم” التي تنتجها شركتان يابانية وأميركية، وتفجير أجهزتها اللاسلكية في لبنان، مع ورود تقارير عن رصد طائرة إلكترونية أميركية في سماء لبنان قبل وقوع التفجيرات.
تثير هذه الأحداث مجدداً المخاوف من الاعتماد على أجهزة الاتصالات الغربية، واحتمالية استخدامها في عمليات التجسس أو القتل.
ارتفعت الأصوات المطالبة بضرورة إيجاد وسائل اتصالات جديدة ومستقلة، بعيدًا عن الأنظمة الغربية، التي أظهرت تعرضها للاختراق من قبل العدو الإسرائيلي، كما حدث في لبنان.
حادث البيجر نحتاج نظم اتصالات مستقلة
أثارت عملية تفجير إسرائيل لوسائل الاتصال الخاصة بحزب الله والمدنيين اللبنانيين (بايجر وأيكوم) الحاجة الملحة لإنشاء نظم اتصالات مستقلة للدول العربية والإسلامية، بعيدًا عن الأنظمة الغربية التي يتم شراؤها من الولايات المتحدة وأوروبا.
تدور الشكوك منذ فترة حول إمكانية “التلاعب الإلكتروني” بالأجهزة، مما يتيح التجسس على الأفراد والدول في بعض الأحيان، أو استخدامها كسلاح في أحيان أخرى من خلال أجهزة توجيه دقيقة مدمجة فيها.
وقد أعادت “مجزرة لبنان الإلكترونية” تسليط الضوء على أهمية وجود نظم اتصالات مستقلة، بعيدة عن الأنظمة الغربية.
في هذا السياق، بدأت تركيا اتخاذ خطوات ملموسة، حيث أعلن سلجوق بيرقدار، المدير التقني لشركة بيكار المنتجة للطائرات المسيرة الشهيرة، في 15 سبتمبر 2024، عن نية شركته توسيع برنامج الفضاء ليشمل نظام تحديد المواقع العالمي الخاص بتركيا (جي بي أس).
وقبل يومين من تفجيرات بايجر في لبنان، صرح بيرقدار قائلاً: “الغرب يخترق الساعات والهواتف، ووجود نظامنا الخاص يعد أمرًا بالغ الأهمية لسيادتنا، وسنعمل على إنشائه”.
أصبح حديث بيرقدار شائعًا بشكل كبير بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية، مما سلط الضوء على أهمية الابتكار التكنولوجي في تعزيز الأمن القومي، بعيدًا عن الأجهزة الغربية التي تُستخدم في التجسس والقتل.
كما دعت بعض الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي إلى التخلي عن الأجهزة الغربية والاعتماد على أنظمة “أكثر أمانًا وموثوقية”.
في 16 سبتمبر 2024، أفادت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، استنادًا إلى مصادرها، بأن “النظام البدائي للرسائل المشفرة هو ما يحافظ على حياة قيادة حماس”.
وأشارت الصحيفة إلى أن زعيم حماس، يحيى السنوار، كان ليُقتل لولا نظام الاتصالات منخفض التقنية الذي ابتكره أثناء وجوده في سجون الاحتلال، والذي يحميه من الشبكة الاستخباراتية الإسرائيلية.
وأوضحت أن السنوار يتجنب بشكل كبير المكالمات الهاتفية والرسائل النصية وغيرها من وسائل الاتصال الإلكترونية التي يمكن لإسرائيل تتبعها، والتي أدت إلى مقتل قادة آخرين في المقاومة.
بدلاً من ذلك، يعتمد على “نظام معقد من الموصلات والرموز والملاحظات المكتوبة بخط اليد، مما يتيح له توجيه عمليات حماس حتى أثناء اختبائه في الأنفاق تحت الأرض”.
حيث يقوم السنوار “بكتابة رسالة بخط اليد أولاً، ثم تُمرر إلى عضو موثوق في حماس، الذي ينقلها عبر سلسلة طويلة من الرسل، وغالبًا ما تكون الرسائل مشفرة، باستخدام رموز مختلفة لمستلمين متنوعين في ظروف وأوقات مختلفة”.
كيف تم الاختراق ادهرز البيجر؟
وفقًا لتقارير غربية، تم اختراق أجهزة اللبنانيين، وبالتحديد عناصر حزب الله، بعد أن تسللت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى منتجات شركتين: واحدة تايوانية تنتج أجهزة “بايجر”، وأخرى يابانية تصنع أجهزة أيكوم (ويكي توكي).
وقد تبين أن الموساد أنشأ شركة وهمية في المجر، حصلت على إذن لإنتاج وتوريد أجهزة الشركة التايلاندية الأصلية “غولد أبولو”، حيث تم زرع متفجرات بكميات صغيرة داخلها.
كما قام الموساد بنفس الأمر مع شركة أيكوم اليابانية، التي أشارت في بيان نشرته وكالة “رويترز” إلى “انتحال” اسمها واستخدامه على الأجهزة التي انفجرت في لبنان، وأعلنت أنها تحقق في أجهزة الراديو التي تحمل شعارها بعد تلك الانفجارات.
وأفادت “غولد أبولو” أن أجهزة الاتصال التي انفجرت بشكل متزامن في أيدي عناصر حزب الله، كانت من صنع شريكها المجري “باك” BAC، الذي تبين أنه كان منسقًا مع الموساد.
وذكر مصدر مقرب من حزب الله لوكالة الأنباء الفرنسية في 17 سبتمبر 2024 أن “أجهزة بايجر التي انفجرت وصلت عبر شحنة استوردها حزب الله مؤخرًا تحتوي على ألف جهاز”، ويبدو أنها “تم اختراقها من المصدر”.
أكدت وسائل الإعلام الأمريكية، بما في ذلك صحيفة “نيويورك تايمز” وشبكة “سي إن إن”، أن تل أبيب قامت باستبدال البطاريات الموجودة في أجهزة بايجر بأخرى قابلة للتفجير قبل إرسالها إلى لبنان، ثم قامت بتفجيرها عن بُعد.
ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصدر أمريكي قوله إنه “تم إدخال كميات صغيرة من المواد المتفجرة في الدفعة الجديدة من أجهزة بايجر”.
وأفادت شبكة “سي إن إن” بأنها حصلت على معلومات من مصادرها تفيد بأن عملية تفجير أجهزة “بايجر” في لبنان تمت بالتعاون بين جهاز “الموساد” والجيش الإسرائيلي.
ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي كان يخشى من أن يكون حزب الله قد اكتشف هذا الاختراق، مما دفعه إلى اتخاذ قرار بالتخلص من الأجهزة، وفقًا لما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 18 سبتمبر.
ويرى عاموس يادلين، الرئيس السابق لمديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أن الهدف من هذه العملية هو إيصال رسالة لحزب الله مفادها أنه “سيدفع ثمناً باهظاً للغاية إذا استمر في هجماته على إسرائيل بدلاً من السعي للتوصل إلى اتفاق”.
وأكد يادلين أنه مع وصول المفاوضات بشأن غزة إلى طريق مسدود، رأت القيادة الإسرائيلية أنه يجب عليها اتخاذ إجراءات ضد حزب الله لإقناعه بإنهاء ربط مصيره بمصير حماس.
شبكة معقدة
في عام 1999، انتشرت معلومات تفيد بأن تحالفًا من الدول الغربية يقوم بالتنصت على الاتصالات الإلكترونية على مستوى عالمي من خلال شبكة معقدة.
وقد سارعت الوكالات الحكومية الغربية إلى نفي هذه الادعاءات، إلا أن لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأوروبي أصدرت تقريرًا يثبت وجود مثل هذا النظام.
تم الكشف عن شبكة “إيشيلون” Echelon، المعروفة أيضًا باسم “الأذن الكبرى”، والتي تتبع جهاز الأمن القومي الأمريكي، حيث تُعتبر نظامًا عالميًا لرصد البيانات واعتراضها ونقلها.
كما تم الكشف عن أن هذه الشبكة تُدار من قبل وكالات استخبارات في خمس دول هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا.
وفقًا للتقرير الذي أعدته اللجنة الأوروبية، يمكن لنظام إيشيلون اعتراض وتعقب أكثر من ثلاثة مليارات عملية اتصال يوميًا، والتي تشمل المكالمات الهاتفية العادية والمحمولة، بالإضافة إلى اتصالات الإنترنت والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية.
وأفادت تقارير أمريكية أن نظام إيشيلون يجمع جميع هذه الاتصالات دون تمييز، ويقوم بتصفيتها وفلترتها باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإعداد تقارير استخباراتية.
كما كشفت المعلومات أن الوكالات الاستخباراتية قامت بتركيب هوائيات ضخمة في مواقع متعددة حول العالم، بهدف اعتراض الإشارات المرسلة من وإلى الأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى إنشاء مواقع متخصصة لمراقبة الاتصالات الأرضية.
**اختراق الاتصالات كأداة للضغط**
أفاد محللون إسرائيليون أن سلسلة التفجيرات التي استهدفت معدات عناصر حزب الله في لبنان وسوريا قد شكلت ضربة معنوية قوية وهزيمة للحزب، مما عزز من قدرة الردع الإسرائيلية.
ومع ذلك، أشاروا إلى أن هذه العمليات “لم تؤد إلى تغيير استراتيجي جوهري في المنطقة، لكنها قد تفتح المجال لمواجهة مستقبلية غير محددة”.
المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، رون بن يشاي، أكد في 18 سبتمبر أن تفجير أجهزة الاتصال عن بعد “أظهر لحزب الله مدى سهولة اختراقه، ليس فقط من الناحية الاستخباراتية، بل أيضاً من الناحية الرقمية والتقنية”.
وأضاف أن “هذا التكامل بين الاستخبارات والاختراق الرقمي يشكل سلاحاً بحد ذاته، مما يستدعي من حزب الله ورعاته الإيرانيين توخي الحذر”.
لكنه أشار إلى أن “التفجيرات المنسوبة إلى إسرائيل تعزز مستوى الردع ضد حزب الله وإيران، وتعتبر ضربة معنوية للحزب، لكنها لا تمثل تحولاً استراتيجياً يضمن عودة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان”.