«مستقبل البريكس»… وجهة الحالمين بـ«تغيير العالم»
أثارت نبرة التحدي التي ظهرت في كلمات زعماء مجموعة “بريكس” خلال قمتهم التي استمرت يومين في مدينة قازان الروسية، تساؤلات حول مدى جدية التكتل وقدرته الفعلية على إنهاء الهيمنة الغربية والقيادة الأميركية المنفردة للنظام العالمي، وبدء حقبة جديدة نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. وفي ظل حالة من الاستياء العام تجاه سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على الساحة الدولية، تركزت مواقف الدول المشاركة في “بريكس” على تعزيز التعاون متعدد الأطراف، وإبراز صوت الدول النامية ومصالحها، مما أعاد إلى الأذهان استراتيجيات فترة الحرب الباردة تحت شعار التعددية والعدالة.
“إننا جميعاً متفقون على تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب يكون عادلاً بحق”، بهذه العبارة خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القمة الخامسة عشرة لتجمع دول “بريكس”، التي اختتمت أعمالها مؤخراً في مدينة جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا. وقد كان واضحاً الهدف من كلمة الرئيس الروسي، الذي ألقى كلمته عبر الفيديو خوفاً من الاعتقال بموجب مذكرة توقيف صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا، وهو السعي نحو تشكيل نظام عالمي عادل.
الباحث أوليفر ستونكل، يقول في كتابه «بريكس ومستقبل النظام العالمي» (نشر عام 2015)، الذي يعدّه كثير من الباحثين أفضل ما كُتب حتى الآن لتحليل تجمع «بريكس»، إن «بريكس» أكبر من أن يكون مجرّد تجمع اقتصادي أو نادٍ لاقتصادات ناشئة.
ويؤكد الباحث الألماني – البرازيلي أن البُعد السياسي ظاهر في تأسيس التجمع منذ اللحظة الأولى، بل يعدّه «قوة قادرة على إنشاء نظام دولي موازٍ، أو تقديم بدائل للمؤسسات الاقتصادية العالمية والعملات الأكثر هيمنة على المعاملات الدولية».
«مستقبل البريكس» امام الغرب
قد لا تكون هذه الرؤية بهذا الوضوح لدى كثرة من المراقبين عند تأسيس «بريكس» قبل 14 سنة، بل إن التجمع لم يكن بتلك الجاذبية التي يحظى بها اليوم، وخاصة عقب توسيع العضوية، ذلك أن الأزمات التي عاشها العالم خلال السنوات القليلة الماضية جعلت «بريكس» محط أنظار كثير من دول العالم، ليس تلك الراغبة في تعزيز علاقاتها مع مجموعة من أسرع البلدان نمواً فقط، بل الساعية أيضاً إلى بناء نظام دولي مغاير لما عهده العالم على مدى أكثر من 3 عقود، بقيادة أميركية منفردة. ومعلوم أن هذه الحالة لطالما اقترنت بتنظيرات حول «نهاية التاريخ» و«صدام الحضارات»، في حين يقدم «بريكس» – على الأقل حتى الآن – صورة تبدو مختلفة وتبشر بإمكانية «إعادة إحياء التاريخ»، عبر «تعاون» الحضارات، لا صراعها.
سلطت الصحف ومراكز الأبحاث الغربية الضوء على القلق المتزايد من إعادة تشكيل النظام الدولي بعيدًا عن الهيمنة الغربية. تعتبر قمة “بريكس” نقطة محورية في هذا التحول التاريخي الذي يمتد على المدى الطويل، وقد تكون بمثابة لحظة تسارع للتغيرات الجارية نتيجة الأحداث الاستثنائية التي شهدها العالم خلال السنوات الأربع الماضية من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. من بين هذه الأحداث، جائحة كورونا في عام 2020، والحرب الروسية في أوكرانيا منذ عام 2022، وعملية “طوفان الأقصى” في 2023، بالإضافة إلى الحرب الإسرائيلية المستمرة في غزة ولبنان ومناطق أخرى من الشرق الأوسط حتى خريف هذا العام.
ورغم أن التحليلات تركزت على سعي روسيا للتغلب على العزلة الدولية والعقوبات المفروضة عليها بسبب “حرب بوتين” في أوكرانيا، من خلال جذب شركاء مثل الصين وإيران الذين يسعون لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي الدولي، إلا أن العديد من المعلقين الغربيين أدركوا خطورة “الاختراق” الذي حققه سيد الكرملين، وهو رجل “كي جي بي” السابق، من خلال استقطاب عدد من حلفاء الولايات المتحدة.
لكن بعيداً عن الاستهانة والتهويل، تبقى الحقيقة التي يعترف بها الباحثون الغربيون أنفسهم هي أن الـ«بريكس» بات أكثر بريقاً مما كان متوقعاً، وأنه غدا عاملاً مهماً في صياغة مستقبل العالم، ليس بما يضمه من «دول مؤسسة» (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) فقط، بل بما ينتظره بعد توسيع العضوية أيضاً. وهنا تبرز دعوة دول ذات تأثير اقتصادي وسياسي لافت في أقاليم عدة عبر العالم، في مقدمها السعودية والإمارات ومصر في منطقة الشرق الأوسط والفضاءين الآسيوي والأفريقي. هذا مع وجود لائحة انتظار طويلة، تضم دولاً أخرى لا تزال تترقب دعوتها، كثير منها يبدو متحمساً لتجاوز «أسيِجة الهيمنة الأميركية».
أدوات القوة للبريكس
لا تقتصر أسباب صعود مجموعة “بريكس” في الساحة العالمية على زيادة جاذبيتها أو قوة اقتصادات بعض أعضائها، مثل الصين التي تُعتبر ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم ومن المتوقع أن تصبح الأكبر خلال العقود القادمة. تمثل الصين سوقًا ضخمة، خاصة للمواد الخام، وتعد مصنعًا لا غنى عنه لجميع دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. تكمن القوة الحقيقية في العديد من العوامل التي استطاعت دول “بريكس” تطويرها، وأبرزها تقديم بديل فعّال. هذا البديل لا يقتصر على فكرة إنشاء “عالم متعدد الأقطاب” كشعار نظري، بل يتجسد في تحويل هذا الشعار إلى واقع ملموس.
على سبيل المثال، أثبت التعاون بين دول “بريكس” قدرته على الصمود أمام الأزمات العالمية، مثل جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا. فقد اختارت دول “بريكس” منذ بداية الأزمة عدم المشاركة في فرض عقوبات على موسكو، حيث لم تشارك الهند أو البرازيل أو جنوب أفريقيا أو الصين في ذلك. وقد تجلى هذا الموقف بشكل واضح من خلال الارتفاع شبه التاريخي في التجارة بين الهند وروسيا، واعتماد البرازيل على الأسمدة الروسية.
أطلقت دول “بريكس” مؤخرًا “بنك التنمية الجديد” (NDB) برأس مال ابتدائي يبلغ 50 مليار دولار في عام 2014، ليكون بديلاً عن البنك وصندوق النقد الدوليين. ويقع مقر البنك في شنغهاي بالصين، وقد قدم أكثر من 30 مليار دولار كقروض لمشاريع تنموية بشروط أكثر مرونة مقارنةً بتلك التي تقدمها المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها القوى الغربية، مما يمنح أعضاء التجمع مزيدًا من السيطرة على تمويل التنمية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قامت دول التجمع بتأسيس صندوق احتياطي للطوارئ يهدف إلى دعم الدول الأعضاء التي تواجه صعوبات في سداد الديون، وذلك لتفادي ضغوط السيولة. كما يهدف الصندوق إلى تمويل مشاريع البنية التحتية والمبادرات المناخية في الدول النامية. من جهة أخرى، أنشأت دول التجمع نظام “دفع بريكس”، الذي يتيح إجراء المعاملات بين دول “بريكس” دون الحاجة إلى تحويل العملة المحلية إلى دولارات. وتدرس هذه الدول حاليًا بجدية توسيع التبادل التجاري فيما بينها باستخدام العملات المحلية، أو حتى إصدار عملة موحدة للتعاملات البينية، وهو ما يعتبره العديد من المراقبين خيارًا بديلاً بعيد المدى، رغم أنه لن يؤثر في المستقبل القريب على هيمنة الدولار الأميركي، الذي يمثل حاليًا 60% من احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنوك.