حماية الثقافة، التنقيب الأثري المشترك، وتعزيز التبادل والتفاعل الحضاري بين الصين والدول العربية

في العاشر من أكتوبر عام 2025، يصادف الذكرى المئوية لتأسيس متحف القصر الإمبراطوري في بكين. حيث أُنشئ هذا المتحف في العاشر من أكتوبر عام 1925 ، والذي كان في السابق القصر الملكي لأسرتي مينغ وتشينغ، ليصبح منذ ذلك الحين صرحا ثقافيا مفتوحا أمام عامة الشعب.
لقد برز دور القصر الإمبراطوري كنافذة مهمة أمام العالم للتعرف على التاريخ والثقافة الصينيين. وباعتباره من الممارسين المخلصين لمبادرة الحضارة العالمية، يسعى متحف القصر الإمبراطوري إلى بناء نفسه كمتحف من الطراز العالمي، ونموذج يحتذى به في حماية التراث الثقافي العالمي، ورائد في دمج الثقافة والسياحة، وصالون ثقافي صيني للحوار والتفاعل بين الحضارات. إن هذا المتحف العريق المفعم بالحيوية والنشاط، يسطع اليوم بوهج جديد في العصر الحديث.
تقع الدول العربية في ملتقى قارتي آسيا وإفريقيا، وهي مثل الصين مهد لحضارات مشرقة، كما كانت عبر التاريخ ملتقى للثقافات المتنوعة. فمن واحة العلا الساحرة في شبه الجزيرة العربية، إلى أهرامات سقارة على ضفاف نهر النيل في مصر، إلى موقع بن عروس الأثري بين غابات تونس المطلة على البحر الأبيض المتوسط، تنتشر في أرجاء آسيا وإفريقيا مواقع تراثية عديدة توثّق مراحل تطور الحضارة الإنسانية.
في السنوات الأخيرة، تعاون علماء الآثار من الصين والدول العربية في مشاريع تنقيب وحماية التراث الثقافي في عدد من المواقع، مما يسهم في كشف تاريخ التبادل الحضاري بين الصين والعالم العربي على طريق الحرير القديم، وكذلك أضافة إسهامات جديدة في دراسة مسار تطور الحضارات القديمة في العالم.
وفي عام 2024، جددت إدارة الدولة للتراث الثقافي في الصين والهيئة السعودية للتراث اتفاقية التعاون بشأن التنقيب الأثري المشترك في موقع السرين، كما وقّع ممثلو متحف القصر الإمبراطوري والمتحف الوطني الصيني وهيئة المتاحف السعودية خطة تنفيذية للتعاون بين المتاحف.
وفي العام نفسه، استضاف متحف القصر الإمبراطوري في بكين معرضا بعنوان “العلا: واحة العجائب في شبه الجزيرة العربية”، وهو تعاون متحفي بين البلدين أسهم بلا شك في تعزيز التفاهم والتفاعل الحضاري بين الشعبين الصيني والعربي.
في نهاية عام 2024، استضاف متحف شانغهاي في مقره بميدان الشعب فعالية ترحيبية بمناسبة المعرض الكبير للحضارة المصرية القديمة، حيث استقطب المعرض أكثر من 15 ألف زائر، محققا رقما قياسيا جديدا في عدد الزوار اليومي للمتحف، وشاهدا على موجة الإعجاب الواسعة بالحضارة المصرية القديمة التي اجتاحت الصين.
وقد كان القسم المسمّى “لغز سقارة” من أبرز فقرات المعرض وأكثرها جذبا للأنظار، حيث عرضت فيه أكثر من 400 قطعة أثرية تم اكتشافها حديثا، من بينها تابوت المومياء ذو الوجه الأخضر والكنوز المدفونة أسفل معبد الإلهة باستت (إلهة القطط)، مبرزة ثمار التعاون المثمرة بين علماء الآثار الصينيين والمصريين خلال السنوات الأخيرة.
بدأ التعاون الأثري بين الصين ومصر عام 2018. ففي منطقة الكرنك الشهيرة بمدينة الأقصر، عمل علماء الآثار من البلدين جنبًا إلى جنب لإعادة إحياء معبد الإله مونتو الذي ظل مطمورا لأكثر من ثلاثة آلاف عام. وفي يونيو 2024، تم رسميًا إطلاق مشروع سقارة الصيني-المصري في قاعدة سقارة الأثرية، وهو مشروع تنفذه جامعة الدراسات الأجنبية في شانغهاي بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة السياحة والآثار المصرية.
وفي تونس التي تعد من أبرز مراكز الحضارة في شمال إفريقيا، و التي قد شكّلت عبر العصور ملتقىً للثقافات المتنوعة.كما تزخر البلاد بثمانية مواقع مدرجة على قائمة التراث الثقافي العالمي، فضلًا عن عدد كبير من المواقع الأثرية التي تستقطب اهتمام علماء الآثار.
وفي يونيو 2023، وقّع مركز البحوث الأثرية التابع لإدارة الدولة للتراث الثقافي في الصين مع المعهد الوطني للتراث الثقافي في تونس اتفاقية للتعاون في التنقيب الأثري المشترك بموقع بن عروس الغابي. وحتى الآن، شارك في المشروع دفعتان من الخبراء الصينيين، وبلغت مساحة التنقيب أكثر من 1100 متر مربع، حيث تم اكتشاف بقايا معبد روماني، وخزان مياه، ومنازل سكنية، وأرضيات فسيفسائية، إضافة إلى العثور على فخار وزجاج وعملات نحاسية. وتشير النتائج الأولية إلى أن الموقع كان مدينة يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام.
إن التعاون الصيني–العربي في مجال التنقيب الأثري وحماية التراث الثقافي لا يُعد مجرد بحث عن جذور الحضارات القديمة واستعادة أمجادها، بل هو أيضًا جسر للتواصل والتبادل من أجل المستقبل. فمن خلال الآثار والمواقع التاريخية، يستطيع الناس أن يلمسوا روعة الحضارات القديمة وحكمتها، ومن خلال هذا التعاون العابر للزمان والمكان، يوسّع العلماء الصينيون والعرب آفاق دراسة الحضارة الإنسانية.
وسواء تعلق الأمر ببقايا المعابد على ضفاف نهر النيل أو بروائع الخزف الصيني على طريق الحرير البحري، فإنها جميعا تروي قصة التفاعل التاريخي بين الحضارتين الشرقية والغربية. واليوم، تضفي هذه الشراكة العابرة للحدود والأزمنة زخما جديدا على مبادرة الحضارة العالمية، ومع توسّع مشاريع التنقيب المشتركة مستقبلا، سيزداد عمق التبادل الحضاري بين الصين والدول العربية، لتكتب بذلك صفحة جديدة من التفاعل والتكامل بين الحضارات الإنسانية.