تعليم ثلاثي في فلسطين ..بدل خماسي

رام الله – فطين عبيد
منذ بداية العام الدراسي في فلسطين، والتعليم الوجاهي ثلاثة أيام فقط، بسبب تأخير وتجزيء الراتب، ما أزهق روح التعليم في جميع المدارس الحكومية، وهدد مستقبل الأجيال القادمة وخسف كامل المنظومة الأكاديمية، ورفع فجوات جودة التعليم ومخرجاته، بخاصة في المواد العلمية، لأن الطالب تشتت بالدوام ثلاثة أيام، والمعلم مع تقزيم الراتب بخاصة من عليه قروض بنكية، كاد أن يتحول إلى متسول لتأمين قوت عائلته.
القلق عند المعلمين والطلبة مبرر وبشدة، فالمعلم عليه أن يعلم ويكمل المادة ويثريها ويطور نفسه تكنولوجياً وتربوياً، ويتواصل مع الأهل باختلاف أنماطهم ومستواهم الثقافي، ويتعامل مع الطلبة حسب فروقهم الفردية واختلاف احتياجاتهم وأنماط تعلمهم.
وبالوقت نفسه عليه أن يتعامل مع ظروفه الشخصية ونقص الرواتب واحتياجات أسرته التي لا تنتهي، والطالب كونه محور التعليم، قلق لأن المعلم يسرع في إعطاء الدروس قبل أن تتعمق في ذهنه، ويتخوف أن تكون أسئلة الإمتحان صعبة وتسبب رسوبه أو تدني علامته.
معلم في إحدى مدارس محافظة جنين، قال: “بدأت التكيف مع الوضع الحالي بشطب المهارات الثانوية والإكتفاء بالأساسية للسيطرة على الكتاب دون إرباك الطالب، أما إكمال المنهج كاملاً فهو مستحيل لأن المادة التعليمية زخمة لجميع المناهج، والمعلم عليه ضغط لإنهاء المادة مع ضغط الدوام وفوقه ضغط الحياة”.
وأضاف: “خطط الطوارئ الحالية توصي بالتركيز الشمولي على ما يفيد الطالب بالصف الحالي والصف الذي يليه، ولكن مهما كانت الخطة ناجحة يستحيل أن تعوض الطالب في ثلاثة أيام عن خمسة أيام أو أربعة أيام”.
فيما قال معلم آخر، إن ضعف التحصيل العلمي الذي يسببه التقليص ينعكس سلباً على نتائج الطلاب في الإمتحانات المحلية والدولية مستقبلاً، ويقلل فرص قبولهم في الجامعات، ويكبت مهارات التفكير النقدي والإبداعي، وللأسف يعتبر بعض الطلاب الأيام الفارغة كونهم بعيدين عن المدرسة نزهة وترفيه، متذرعين بفوضى العملية التعليمية.
وقال إستحدثت بعض الأساليب التربوية لتعويض النقص، عبر تفعيل فكرة الصف المقلوب، واستخدام مصادر التعلم المفتوحة، التي ما زال بعض المعلمين بحاجة لدورات تؤهلهم لاستخدامها، وفي حال إذا تعاون الأهل والمعلم والمدير ممكن أن يستفيد الطالب، لكن النسبة لطلاب المرحلة الأساسية الأمور أصعب بكثير، فهم بحاجة لمتابعة كبيرة لتحقيق استفادة معقولة.
ومعروف أن فلسطين تعاني ظروف استثنائية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتربوياً، ما يؤثر على جودة التعليم ومخرجاته، وللأسف الشديد الواقع المزري يرجعنا إلى الوراء على رغم التطور التكنولوجي، وتوفر قنوات الاتصال في كل بيت.
الدوام الثلاثي يزداد معه الفاقد التعليمي والتربوي، لأن تخفيض عدد حصص المادة التعليمية بمقدار الثلث يؤدي إلى السرعة في إعطاء المادة والإستغناء عن الأنشطة الإثرائية المهمة لتعميق الفهم.
تجاهل بعض المعلمين حصص التربية الرياضية والتربية الفنية، يحرم الطالب من متعة ممارسة أنشطة تلامس احتياجاته، والفترة لا تكفي لتنمية التفكير النقدي، طرق حل المسائل العلمية، والمعلم ينشغل بتغطية الحد الأدنى من المهارات، ما يراكم التأثيرات الاجتماعية والنفسية السلبية عند الطرفين.
نادراً ما نجد طلاب يستثمرون أوقات الفراغ بالدراسة، لأن الوضع العام من اقتحامات الإحتلال والمستوطنين وغياب المال، يشجع الطلاب على حالة من الشعور بالضياع والفوضى والفلتان.
ترك الطلاب في مهب الريح بلا مدارس يزيد أوقات الفراغ غير الموجهة، بخاصة للأطفال والمراهقين، ما قد يدفعهم للإنخراط في أنشطة غير مفيدة أو خطرة، خاصة في بيئات تعاني من تحديات اجتماعية واقتصادية صعبة.
تزايد وتيرة الفقر والبطالة في معظم الأراضي الفلسطيني، بسبب منع العمل في الداخل المحتل، وضعف الأسواق التجارية، والمد والجزر في الرواتب الحكومية، خلقت أجواء مشحونة بالفشل للطلاب.
تقليص الدوام يزيد اضطراب العقل والاستقرار، ويخلق بيئة غير مستقرة للأطفال، ما يؤثر على صحة الطلاب النفسية، ويزيد مستويات التوتر والقلق لديهم ولدى أسرهم، ولا نبالغ أن استمرار الوضع، يفتح الباب لتسرب الطلاب من المدارس، وحتى تركهم عرضة للسلوكيات غير السوية.
تشويش الدوام خلق بلبلة وقتل روح التنشئة الاجتماعية، لأن التفاعل الاجتماعي داخل الصف مع الزملاء والمعلمين، يصقل المهارات الانسانية ويعزز العلاقات الايجابية، كما أن المشاركة في الأنشطة اللامنهجية تسهم كذلك في بناء شخصيتهم متزنة متكاملة للطالب.
وبالتأكيد حرمان الطالب من فرص التواصل الإجتماعي الوجاهي، وإتاحة الفرصة في الاستغراق في التواصل الافتراضي يحدث إختلالا في نسيج المجتمع، كما أن
العائلات الفلسطينية تواجه صعوبة في توفير رعاية بديلة أو أنشطة تعليمية وترفيهية للأطفال خلال الساعات التي كانوا يقضوها في المدرسة، ما يزيد من الضغط الإقتصادي والنفسي عليها، خاصة الأسر العاملة.
ينذر المستقبل بانخفاض جودة القوى العاملة الناتجة عن تدهور التعليم بجيل أقل تأهيلاً، ما يقلل من إنتاجية القوى العاملة وقدرتها على المنافسة، إضافة إلى زيادة نسبة البطالة بسبب المخرجات ضعيفة، ما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإقتصادية وارتفاع معدلات الفقر.
هشاشة النظام التعليمي يدفع الكفاءات والشباب الطموح للبحث عن فرص تعليم وعمل أفضل خارج فلسطين، ما يؤدي إلى استنزاف رأس المال البشري، وتحقيق دون قصد رسالة الإحتلال بتفريغ الأرض.
التعليم هو حجر الزاوية في أي تنمية مستدامة، وتقليص الدوام يعيق قدرة فلسطين على بناء اقتصاد مزدهر ومجتمع متقدم يعتمد على المعرفة والابتكار، وتآكل رأس المال البشري، وتشويه سمعة الهوية العلمية الفلسطينية.
المدرسة ليست مجرد مكان لتلقي المعرفة، بل هي مؤسسة تربوية تسهم في غرس القيم الوطنية والاجتماعية، وتقليص دورها يضعف كامل الأجيال الحالية والمقبلة، وللأسف تقليص الدوام المدرسي في فلسطين ليس مجرد إجراء مؤقت أو محصور على فئة قليلة، بل هو استقطاع من مستقبل ألوف الطلاب، ونزع بذور المعرفة، وخلق أزمات تعليمية واجتماعية واقتصادية عميقة تستغرق عقوداً لمعالجتها.
الحل الوحيد بحسب المعلمين ممن التقيناهم خلال كتابة هذا التقرير وأهاليهم، إعطاء المدرسين كامل حقوقهم وعودة التعليم كالمعتاد، أما المدرس العاجز عن تأمين مصاريف أولاده أو حتى دفع أجرة الطريق ليصل المدرسة، فليس عليه لوم من وجهة نظر كثيرين، وعلى وزارة التربية والتعليم البحث عن دول داعمة تنقذ العملية التعليمية قبل تبخر عقول الطلاب وضياع العام الدراسي.
فيما قالت معلمة في إحدى مدارس مدينة نابلس: الله يفرجها الوضع والضغط من جميع الجهات والحل بيد الوزاره، لأن المعلم إستنفذ كامل طاقته، أما تحميل المعلم الذي يعاني نفسياً ومادياً المسؤولية واتهامه بالتقصير فهي غير منصفة، على الجهات المسؤولة دفع راتب كامل للمعلم وجميع مستحقاته ومنحه الطمأنينية للعيش باحترام، لانه المعلم والطالب يعانوأ نفسياً ومادياً.
وأكدت معلمة في احدى مدارس مدينة رام الله، أن الراتب حق أصيل وليس رفاهية للموظف، والحل البديهي للخروج من الأزمة العمل بكل قوه لحل مشكلة الرواتب فالتأخير ليس ذنب المعلم، مشيرةً إلى أنها بحثت عن حلول للحفاظ على معنويات الطالب منها التركيز على التعلم الذاتي، توجيه الطلبة على التعلم، تفعيل التكنولوجيا، تفعيل مصادر التعلم المفتوحة وتدريب المعلمين عليها.

