الاقتصاد وجائزة نوبل
الاقتصاد يعد العمود الفقري لأي دولة، فهو المصدر الذي يغذي جميع الأنشطة الأخرى. إن وجود اقتصاد قوي يعني استثمار الموارد المتاحة بشكل جيد، وأهم هذه الموارد هو العنصر البشري. قبل أيام، تم الإعلان عن الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد، والتي منحت لثلاثة أساتذة في هذا المجال: دارون أسيموغلو وسيمون جونسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو. وقد حصلوا على الجائزة تقديراً لأبحاثهم التي تركز على تطور المؤسسات والدول، وتستكشف أسباب الفقر والغنى، والتقدم والفشل، وكيفية إدارة الدول لثرواتها. هذه الأبحاث القيمة مدعومة بالبيانات والمقارنات والتحليلات الدقيقة، وقد تناولت أوضاع دول مختلفة، سواء كانت متقدمة أو نامية. وقد توصلت إلى أن الدول التي تتمتع بمؤسسات شاملة تدعم الجميع، وتعزز المنافسة، وتحمي حقوق الملكية، وتكافح الفساد، هي التي استطاعت تحقيق الرخاء الاقتصادي والنمو على المدى الطويل. بينما الدول التي تفتقر إلى هذه الخصائص، ظلت تعاني من الفقر وتواجه الأزمات المتكررة.
في دراسة شاملة، تم إجراء مقارنة بين دول متشابهة من حيث الجنس والثقافة والجغرافيا، مثل كوريا الجنوبية والشمالية، وألمانيا الغربية والشرقية قبل توحيدهما. وقد أظهرت النتائج أنه لا يوجد تأثير للجنس أو الثقافة أو الجغرافيا على تقدم أو تخلف الأمم. العوامل الحاسمة هي القيادة ونظام الحكم، والحرية الفردية، وجودة الأنظمة وتطبيقها، بالإضافة إلى جودة التعليم والتدريب. كما تم تناول تأثير الديمقراطية على الاقتصاد والازدهار في عدة مواضع، مع تجاهل الفوارق الكبيرة بين الدول، حيث أُشير إلى أن الديمقراطية هي ثقافة ينبغي أن تبدأ من المدارس قبل أن تكون نظام حكم.
كما أن الفائزين الثلاثة قد ألفوا مجموعة من الكتب حول الاقتصاد، التي تستحق الدراسة والتحليل من قبل وزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة المالية. من بين هذه الكتب، يوجد كتاب بعنوان “لماذا تفشل الأمم” الذي شارك في تأليفه أسيموغلو وروبنسون وصدر في عام 2012، وآخر بعنوان “القوة والتقدم” الذي ألفه سيموغلو مع جونسون وصدر في عام 2023، كما أشار الدكتور محمود محيي الدين
يمكننا أن نستخلص من هذا الموضوع النقاط التالية:
أولاً: لا يمكن الاستغناء عن القيادة الواعية والمخلصة لتحقيق أي تقدم اقتصادي، حيث تتوفر العديد من الأمثلة على ذلك. فقيادة تسعى للنهوض بالاقتصاد تعمل على توجيه جميع الموارد المتاحة لتحقيق هذا الهدف. كما أن مكافحة الفساد، التي تُعتبر شرطاً أساسياً للتقدم، لا يمكن أن تنجح إلا بدعم من القيادة العليا، مع ضرورة وجود أنظمة واضحة وتطبيق مبادئ الحوكمة والشفافية والنقد البناء. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب استمرار النهضة الاقتصادية وجود مؤسسات المجتمع المدني التي تُعد دعماً مهماً للقطاعين العام والخاص، ومن الضروري تقليل نسبة الديون الخارجية مقارنة بالناتج المحلي.
ثانياً: يُعتبر مبدأ الاستدامة من أهم مبادئ النهوض بالاقتصاد، حيث أصبحت الاستدامة شعاراً لكل اقتصاد يسعى للنمو المستمر. ومن أبرز مقوماتها ترشيد استهلاك الطاقة، الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، الحفاظ على البيئة، زيادة المساحات الخضراء، وتقليل الانبعاثات الضارة بالمناخ. وفي المملكة، أصبحت الاستدامة ركيزة أساسية لكل المشاريع الكبرى التي تبنتها الحكومة والقطاع الخاص بعد إطلاق الرؤية.
ثالثاً: من الضروري إجراء مراجعة مستمرة للخطط وتطويرها، مع عدم تجاهل المستجدات في مجالات الإدارة والتكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي وتأثيراته المحتملة على الخطط المستقبلية. ومن الأمثلة على المخاطر الناتجة عن إغفال المستجدات ما حدث للاتحاد السوفييتي، الذي بدأ باقتصاد قوي ونمو مستمر جعله يُعتبر منافساً لأميركا في الناتج المحلي، بل توقع البعض أن يتفوق عليها. إلا أنه في النهاية توقف بسبب ضعف الإنتاجية، وتركز القيادة على التسليح على حساب النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى إهمال البحث والتطوير والابتكار، وغياب الحرية والنقد البناء.
رابعاً: أشار الفائزون بجائزة نوبل إلى أن الموارد الطبيعية لم تكن لها تأثير كبير على النهضة الاقتصادية. فالدول التي حققت ازدهاراً اقتصادياً مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان تفتقر إلى هذه الموارد. ومع ذلك، فإن القيادة الحكيمة والواعية يمكن أن تستثمر في العنصر البشري بشكل فعال من خلال التعليم والتدريب، مع التركيز على البحث والتطوير للنهوض بالصناعات والزراعة والسياحة، لتكون جميعها روافد مهمة للاقتصاد.
تُعتبر الحلول العلمية المدروسة والمجربة هي الأكثر فعالية وأماناً، على الرغم من أنها غالباً ما تكون أطول وأكثر تكلفة مقارنةً بالحلول السريعة التي تسعى لتجاوز المراحل والخطوات، والقفز مباشرةً إلى النتائج. آمل أن يتم تحليل الأفكار الرئيسية التي طرحها الفائزون حول أسباب نهوض الأمم وسقوطها، لنضيف قوة إلى النهضة المباركة التي نعيشها اليوم، ولنجعلها نموذجاً يُحتذى به على مستوى العالم.