إحداث ثورة في تحليلات المخاطر بالاعتماد على توليد البيانات الاصطناعية
يكوّن كل قرار تجاري مقترناً بأنواع معيّنة من المخاطر. ومع ذلك، فإن اتخاذ المخاطرة يقود إلى تحقيق الكثير من الفوائد والمكاسب.
وعند تطبيق هذا الأمر على المؤسسات، يتمثل أهم الأمور في إيجاد الطرق الجديرة بالثقة للتغلب على حالة عدم اليقين، والتمكّن من إدارة المخاطر بثقة، والحدّ من التهديدات المحتملة، والاستفادة من الفرص غير المتوقعة.
ويتوقّف ذلك كلّه على إدارة المخاطر وتحليلها بطرق ذكية.
ويمكن تغيير نتائج الأعمال بشكل كبير عن طريق امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات السريعة والدقيقة بشأن المخاطر.
وينطبق هذا على أي شركة أو مؤسسة تقريباً، وخاصة الكيانات التي تقدّم خدمات الائتمان لعملائها، بدءاً من البنوك التقليدية، وحتى شركات التكنولوجيا المالية وشركات السيارات والرهن العقاري والاتصالات والمؤسسات الحكومية وأنظمة الرعاية الصحية، وصولاً إلى شركات التأمين وخدمات إدارة الائتمان وحتى محلات التجزئة.
التغيير حاجة ملحّة لمواجهة التحديات في النماذج التقليدية
تحثّ الهيئات التنظيمية البنوك على تحديد احتمالات التعرّض للمخاطر، كمحاولة لتعزيز مرونة النظام المالي في ظل البيئة المالية العالمية التي قد يستعصي التنبؤ بها.
ويقوم مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي بإدراج إدارة المخاطر والتدقيق الداخلي والامتثال، على قائمة الوظائف الرقابيّة الرئيسية التي يتولاها.
وأصدر البنك المركزي السعودي (ساما) إطاراً لإدارة المخاطر للبنوك التي تمارس الخدمات المصرفية الإسلامية. وبات لزاماً على المؤسسات المالية معالجة المخاطر المرتبطة بالاحتباس الحراري العالمي، لأن تأثير تغيّر المناخ يمكن أن يشكّل تهديداً حقيقياً لأصول تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات على مستوى العالم.
ونظراً لهذه الظروف السائدة، تستخدم المؤسسات نماذج المخاطر بشكل متزايد لدعم العمليات المؤتمتة لصنع القرار، كما تسعى في الوقت ذاته إلى نشر نماذج جديدة ومبتكرة بسرعة لتلبية احتياجات العمل المتغيرة.
وأدّى دمج الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في نماذج المخاطر خلال السنوات الأخيرة إلى تسجيل تحسينات كبيرة من حيث الدقة والكفاءة، لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي تتفوق في التعرّف على الأنماط في البيانات للتوصّل إلى التنبؤات.
وهنا يبرز سؤال مهم، ماذا عن البيانات؟ يمكن القول إن بناء هذه النماذج وتدريبها باستخدام بيانات أساسية خاطئة قد يؤدي إلى عواقب سلبية نتيجة القرارات المتخذة بالاعتماد على افتراضات وتقديرات غير صحيحة.
ونتيجة لذلك، فإن وجود أساس بيانات قوي، مع إمكانية الوصول بسهولة وسرعة إلى مجموعات كبيرة ومتنوعة من الأشخاص، وبيانات عالية الجودة، تعتبر جميعها من الأمور بالغة الأهمية عندما يتعلق الأمر بتطوير نماذج تقييم المخاطر.
ومن المؤكد أن هذا الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لأن الحصول على هذا النوع من البيانات المستمدة من العالم الحقيقي يكون مقترناً بارتفاع التكاليف المتصلة بجمع البيانات والتعليقات التوضيحية، ناهيك عن الجهود المطلوبة لتحليلها وتوصيفها. وحتى عندما تمتلك الشركات الكثير من البيانات الواقعية المتاحة، تبدأ التحدّيات الإضافية بالظهور، وربما لا تتوافق معايير جودة تلك البيانات أو عمقها التاريخي مع التوقعات في الكثير من الأحيان.
وعلاوة على ذلك، ورغم إنشاء محيط من البيانات يومياً في القطاع المالي، يُطلب من المؤسسات التعامل بطرق آمنة مع معلومات التعريف الشخصية الحساسة ضمن معايير الامتثال التنظيمي المسموح بها، حتى لا تكون عرضة لغرامات كبيرة، ناهيك عن حوادث أخرى محتملة قد تتسبب بإضرار تتعلق بسمعة، لاسيّما وأن إخفاء هوية البيانات قد أثبت أنه عملية غير كافية، وقد يصعب رصد أو معالجة أوجه الفشل في أغلب الأحيان.
وهناك أيضاً سيناريوهات نادرة يجب أخذها في الحسبان، ومنها أن المؤسسات لا تمتلك نقاط بيانات كافية لوضع النماذج بسبب ندرة الأحداث.
وفي حالة وجود بنك رقمي تم إنشاؤه حديثاً، أو بنك يركز على المستهلك، ويهدف إلى بناء محفظة شركات قوية، قد تكون هناك فجوات في البيانات الخاصة بمحافظ أو أحداث محددة تعتبر حاسمة ومدخلات رئيسية لتطوير نماذج المخاطر. وفي مثل هذه الحالات، يتعين على البنك إيجاد السبل اللازمة لاستقراء هذه العناصر المجهولة بدقة من دون المخاطرة بارتكاب أي تجاوزات. وفي هذا الجانب على وجه التحديد تلعب البيانات الاصطناعية دوراً قيّماً للغاية.
بزوغ مجال توليد البيانات الاصطناعية
أدى ظهور ChatGPT في العام 2023 إلى فتح آفاق جديدة لابتكار الذكاء الاصطناعي، وإطلاق ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي في العديد من القطاعات.
وبناءً على دراسة استقصائية عالمية حديثة أجرتها ساس “كولمان باركس”، فقد تبيّن أن 2% من صناع القرار في مجال البيانات في دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية يرون أن شركاتهم قامت بدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي بالكامل في عملياتهم المنتظمة، بينما يقوم 48% منهم بإجراء اختبارات أولية للتنفيذ، بما يتجاوز المستوى العالمي بنسبة 43%.
ويعتزم 34% آخرون استخدام نفس المجال في غضون فترة تتراوح من سنة واحدة إلى سنتين.
وعندما يتعلق الأمر بتوليد البيانات الاصطناعية، يذهب الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى ما هو أبعد من التنبؤ والحوار، لاسيّما وأنه قادر على توليد البيانات الجديدة كأحد المخرجات الأساسية منه.
ومع أن معظم الناس يتمتعون بالدراية الكافية بنماذج اللغات الكبيرة مثل ChatGPT التي يمكنها توليد النصوص، يمتلك الذكاء الاصطناعي التوليدي القدرة أيضاً على إنشاء بيانات تركيبية.
ويتعلق توليد البيانات الاصطناعية بتوفير البيانات حسب الطلب أو الخدمة الذاتية أو البيانات الآلية التي يتم إنشاؤها بواسطة الخوارزميات أو القواعد بدلاً من جمعها من العالم الحقيقي. وبدلاً من مجرد توليد بيانات عشوائية، يهدف توليد البيانات الاصطناعية إلى تكرار بيانات العالم الحقيقي من خلال الحفاظ على الارتباطات والتوزيعات والأنماط.
ويضمن هذا النهج عدم الاستهانة بهذه الجوانب المهمّة أو المبالغة فيها.
وتعدّ “شبكات الخصومة التوليدية” أو ما يطلق عليه أيضاً “الشبكات التوليدية التنافسية” (GAN) التقنية الأكثر شيوعاً لتوليد البيانات الاصطناعية، لأنها تحاكي توزيعات محددة. ويوجد هناك نوعان من الشبكات العصبية التي يمكنها المشاركة في التدريب.
وتقوم إحدى الشبكات بإنشاء البيانات (وتسمّى المُولِّدة)، بينما تحاول الشبكة الأخرى التمييز (المُمَيِّزة أو الكاشِفة)، لتحديد ما إذا كانت تلك البيانات حقيقية أو مزيفة. وإذا تم اكتشاف أنها مُزيفة، يتم إخطار الشبكة المُولِّدة بذلك، في حين تحاول تحسين الدفعة التالية من البيانات التي تم إنشاؤها. لذلك تقوم الشبكتان بتدريب بعضهما بعضاً، ومن هنا يأتي الجانب التنافسي.
كيف تغيّر البيانات الاصطناعية مجال تحليل المخاطر؟
قد تنطوي عملية تدريب “الشبكات التوليدية التنافسية” على الكثير من الجهد، وتتطلب عادةً استخدام أجهزة معززة بوحدات معالجة الرسومات، ولكنها تتمتع بالقدرة على التقاط العلاقات المعقدة وغير الخطية للغاية بين المتغيرات، ما يؤدي في نهاية المطاف للتوصل إلى بيانات تركيبية دقيقة وواقعية للغاية.
ويمكنها أيضاً إعادة إنتاج نفس الخصائص الإحصائية والاحتمالات والأنماط مثل بيانات العالم الحقيقي التي تم تدريبها منها، وتستطيع في الوقت ذاته إنشاء بيانات عند حدود البيانات الأصلية أو خارجها، ما قد يوفّر بيانات جديدة قد يكون مصيرها الإهمال لولا لم يتم استخدام هذه الشبكات.
وباستخدام هذا النوع من الشبكات لتوليد البيانات الاصطناعية، إلى جانب حلول إدارة المخاطر الموثوقة، يمكن للمؤسسات المالية الحصول على ميزة تنافسية كبيرة. وعلى سبيل المثال، يمكنها إنشاء حالات افتراضية بشكل اصطناعي عندما تكون بيانات العالم الحقيقي محدودة.
وتمثل جودة البيانات تحدّياً آخر يمكن تخفيفه بالاعتماد على توليد البيانات الاصطناعية، خاصة إذا كانت البيانات المتاحة ليست مرضية دائماً.
ويوفّر توليد البيانات الاصطناعية المزيد من الحالات، فضلاً عن التخلص من المشاكل الموجودة في البيانات الأصلية، ما يضمن الحصول على بيانات بأعلى مستويات الجودة، وضمان أداء أفضل في المجالات ذات المهام الحرجة، بما في ذلك تحسين دقّة تسجيل الائتمان وتقليل التحيز في اتخاذ القرار.
ويساعد الاعتماد على البيانات الاصطناعية المؤسسات في تأمين خصوصية بياناتها الحقيقية. وتبرز أهمية هذا الجانب بسبب وجود العديد من الأسباب التي قد تدفع المؤسسات المالية إلى تفضيل عدم المخاطرة باستخدام بيانات العملاء الحقيقية في العملية، مثل إشراك أطراف ثالثة في تطوير النموذج، واستخدام الخدمات السحابية، والمخاوف التنظيمية.
وعن طريق البيانات الاصطناعية، يمكن التوصّل إلى مجموعات كاملة من البيانات التي تشترك في نفس الخصائص مع البيانات الحقيقية، من دون المساس بخصوصية عملائها.
ويمكن استخدام بعض تقنيات توليد البيانات الاصطناعية لإنشاء بيانات لعمليات المحاكاة أو السيناريوهات الافتراضية. وتستطيع البنوك محاكاة الأحداث النادرة أو غير المتوقعة أو التي تحدث مرة واحدة في الجيل، باستخدام مجموعات بيانات متفرقة، وتدريب النماذج على التطورات الخارجية الجديدة، بما في ذلك تغيّر المناخ، وتعزيز عمليات محاكاة الاقتصاد الجزئي/الكلي وحالة السوق لتحديد المخاطر المحتملة، قبل أن تتحوّل إلى تحديات حقيقية على أرض الواقع.
وفي مجال كشف الاحتيال والجرائم المالية ومنعها، يمكن للمؤسسات المالية استخدام البيانات الاصطناعية لاستقراء الأحداث النادرة وغير المعتادة لتدريب النماذج على أنساق محددة من عمليات وحوادث الاحتيال ومكافحة غسل الأموال. وقد تكون البيانات الاصطناعية مفيدة أيضاً في اختبار اختراق أنظمة مكافحة الاحتيال الحالية، من أجل ضبط أدائها لتحسين قدراتها الدفاعية.
وتبحث المؤسسات في الوقت الراهن عن طرق جديدة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة التشغيلية وتحقيق أقصى قدر من النتائج الإجمالية. وتهدف مبادرة منصة D[n]A التي أطلقتها ساس إلى دفع تطورات الذكاء الاصطناعي في المنطقة، وذلك من خلال اختبار وتجريب توليد البيانات الاصطناعية في حالات الاستخدام الواقعية عبر القطاعات المختلفة.
ونظراً لإدراكها قيمة البيانات الاصطناعية في وقت مبكر، أطلقت هيئة دبي الرقمية إطار عمل تطبيقياً لاستخدام هذا النوع من البيانات في أكتوبر 2022. وتتوقع مؤسسة “غارتنر” أنه بحلول العام 2026، ستستخدم 75% من الشركات الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنشاء بيانات اصطناعية للعملاء، ما يعني تحقيق ارتفاع هائل بعد أن كانت النسبة أقل من 5% في العام 2023.
وعلاوة على ذلك، يكشف استطلاع ساس و “كولمان باركس” أن 24% من المؤسسات في الإمارات والسعودية تقوم بالفعل بمعالجة تحديات البيانات من خلال توليد البيانات الاصطناعية، بينما تفكر 26% أخرى في اتباع نفس المسار.
ومن بين المؤسسات في الإمارات والسعودية التي اعتمدت أو تقوم بتجريب دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في عمليات التحليلات، قام 80% منها بتعزيز جهود إدارة المخاطر والامتثال، ما أدى إلى تحقيق كفاءات أعلى وقياس أكثر دقة لمخاطر العملاء، ومن ثم الحصول على محفظة أفضل أداء وزيادة في الربحية، والالتزام بشكل أفضل بالمعايير التنظيمية.
وفي نهاية الأمر، يجب أن يكون الهدف تحقيق التوازن الصحيح بين الابتعاد عن المخاطرة من جهة والسعي لتطوير الأعمال من جهة أخرى. وستتمكن المؤسسات القادرة على اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على بيانات جديرة بالثقة وعالية الجودة من تخفيف المخاطر بنجاح، والحفاظ على الامتثال التنظيمي، وتقليل تكلفة ممارسة الأعمال.
وتكمن في هذا الجانب أهمية العمل مع الشركاء المناسبين الذين يمكنهم مساعدة الشركات في القطاع المالي والقطاعات الأخرى على تحويل عمليات نمذجة المخاطر وصنع القرار من عمليات تستغرق وقتاً طويلاً إلى عمليات آلية ومبسطة لإدارة المخاطر من الجيل التالي.