وزارة العمل المصرية: منجم ذهب غائب في اقتصاد مصر
تجارب ملهمة: كيف نجحت دول مثل الفلبين والهند في تحويل العمالة إلى ذهب؟

كتب: محمد حلمي الحساني
“كنز مصر البشري: كيف نحول وزارة العمل إلى بوابة للثروة؟”
في وقت تتصاعد فيه التحديات الاقتصادية وتبحث الدولة عن موارد جديدة وثابتة، تظل وزارة العمل في الظل، على الرغم من أنها تمتلك مفتاحًا من مفاتيح الذهب الاقتصادي: العمالة المصرية المهاجرة. هذه الوزارة التي ما زالت تُدار بعقلية الستينيات، يمكن أن تتحول – إذا أُعيد تشكيلها وقيادتها بكفاءة – إلى واحدة من أهم أدوات الدولة في خلق موارد دائمة ومستقرة، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية لمصر في الداخل والخارج.

مغتربو مصر: نبع لا ينضب من العملة الصعبة
بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بلغت تحويلات المصريين بالخارج أكثر من 31 مليار دولار سنويًا خلال السنوات الأخيرة، متفوقة على إيرادات السياحة وقناة السويس، مما يجعلها أكبر مصدر للعملة الصعبة في البلاد. هذا الدخل لا يتأثر بالأزمات بنفس سرعة المصادر الأخرى، لأنه يستند إلى عرق وجهد الملايين من أبناء الوطن العاملين بالخارج، الذين تجمعهم ببلدهم روابط انتماء عاطفي واقتصادي وإنساني لا تنفصم.
إن العامل المصري ليس مجرد موظف بالخارج، بل سفير غير رسمي، يحمل همّ أسرته ووطنه، ويسعى إلى تحسين حياته وحياة محيطه. وللأسف، ما تزال وزارة القوى العاملة تتعامل مع هذا الملف بمنتهى السطحية والروتينية، في حين أن المطلوب هو استراتيجية وطنية كاملة لإدارة ملف الهجرة والعمالة الدولية.
أسواق العمل العالمية: فرص تضيع بسبب الغياب الرسمي
العالم اليوم في حاجة ماسة للعمالة، من العامل العادي إلى الطبيب والمهندس. وفقًا لتقارير منظمة العمل الدولية و”OECD”، هناك عجز كبير في العمالة في الدول التالية:
- كندا: تحتاج إلى أكثر من 1.2 مليون مهاجر بحلول 2027 لسد فجوات في القطاعات الطبية، والإنشاءات، والخدمات.
- أستراليا ونيوزيلندا: تطلبان عشرات الآلاف سنويًا من الفنيين والمهندسين والزراعيين، ضمن برامج هجرة مرنة وواضحة.
- ألمانيا والدول الإسكندنافية: تطلب معلمين، وعمال رعاية صحية، وتقنيين، وصنايعية مؤهلين.
- دول شرق آسيا (سنغافورة، ماليزيا، كوريا): تستورد عمالة فنية مدربة في قطاعي الإلكترونيات والصناعات الدقيقة.
- دول الخليج، لا سيما السعودية وسلطنة عمان، تسعى لاستقطاب عمالة عربية في ظل التوسع بمشاريع “رؤية 2030”.
ورغم وفرة هذه الفرص، نجد أن المصري يصل إليها بجهود فردية، أو عبر الهجرة غير الشرعية، معرضًا حياته وأمن بلده للخطر، في حين يفترض أن الدولة هي من تفتح هذه الأبواب له بشكل قانوني ومنظّم، وتساعده في تسويق مهاراته، وتوفر له الحماية القانونية والمهنية في الخارج.
وزارة مهملة.. أم ثروة ضائعة؟
وزارة العمل أو القوى العاملة، بدلاً من أن تكون قاطرة دبلوماسية اقتصادية ناعمة، اختُزلت منذ عقود في وظيفة بيروقراطية: إصدار كعب العمل لم يطاها من التطوير الا تغيير اسمها من تشكيل وزاري الى اخر ، من وزار القوى العاملة ليضيف عليها الهجرة ُ،ثم الى وزارة العمل وهكذا!
إن هذه الوزارة تمتلك خريطة بشرية ضخمة: من العامل غير الماهر، إلى الحرفي، إلى المهني، ثم المهندس، فالطبيب. هذه الطبقات قادرة على ملء ملايين الوظائف حول العالم، شريطة وجود:
- قيادة دبلوماسية محترفة تفهم تعقيدات العلاقات الدولية وتستطيع التفاوض باسم مصر لفتح أسواق جديدة.
- قناصل متخصصون في ملفات الهجرة وسوق العمل، لا مجرد موظفين إداريين.
- مكاتب تنسيق دولية تتعامل مع كل دولة بلغتها وثقافتها وسياستها الخاصة، لخلق مسارات قانونية مستدامة للهجرة الآمنة.
وعلى الصعيد الداخلي، يجب أن تتحول مكاتب الوزارة إلى منصات ذكية للتدريب والتوجيه والربط المباشر مع الأسواق العالمية، بدلًا من أن تكون مجرد أختام وشهادات تقليدية لا تُغني ولا تُسمن.

تجارب ملهمة: كيف نجحت دول مثل الفلبين والهند في تحويل العمالة إلى ذهب؟
الفلبين: حين تصبح العمالة المهاجرة سياسة دولة
في جنوب شرق آسيا، تقف الفلبين مثالًا عالميًا على كيفية تحويل تصدير العمالة إلى ركيزة اقتصادية واستراتيجية وطنية.
فمن خلال “الإدارة الفلبينية لتوظيف العمالة في الخارج (POEA)”، وهي هيئة حكومية متخصصة، تضمن الدولة توظيف مواطنيها بعقود رسمية وآمنة في أكثر من 100 دولة حول العالم.
يعمل أكثر من 10 ملايين فلبيني في الخارج، وترسل هذه الجالية نحو 38 مليار دولار سنويًا (2023)، تمثل أكثر من 9% من الناتج المحلي الإجمالي للفلبين.
لكن القيمة لا تقف عند الأرقام فقط، فالفلبينيون باتوا علامة ثقة دولية في مجالات التمريض، العمل البحري، الضيافة، الإنشاءات، والخدمات المنزلية، ويرتبط اسمهم بالجودة والالتزام.
ولكي تصل الفلبين إلى هذه النتيجة:
- أنشأت مراكز تدريب مهني واسعة النطاق تواكب متطلبات كل سوق.
- جهزت بعثاتها الدبلوماسية بوحدات متخصصة لحماية العمال.
- فعّلت نظام تحويلات مصرفي مدعوم يجعل من السهل إرسال الأموال إلى الوطن.
الهند: تصدير العقول قبل الأيدي
في الهند، القصة مختلفة ولكن لا تقل نجاحًا. تصدّر الهند عشرات الملايين من العاملين في مجالات التقنية والهندسة والطب، لا سيما إلى الولايات المتحدة وأوروبا والخليج.
- يبلغ عدد الهنود في الخارج نحو 18 مليون شخص.
- يبلغ إجمالي تحويلاتهم أكثر من 125 مليار دولار سنويًا (2023)، لتصبح أكبر دولة متلقية للتحويلات في العالم.
الهند لم تصل لهذا الموقع مصادفة. فهي:
- تستثمر منذ سنوات في تعليم تقني عالٍ ومهارات لغة أجنبية.
- تبرم اتفاقيات عمل ثنائية ذكية، وتمنح مواطنيها حوافز واضحة للهجرة المؤقتة.
- تعتمد على شبكاتها القنصلية لحماية العمال وتنظيم أوضاعهم القانونية.
المكسيك: العمالة في قلب العلاقة مع أمريكا
المكسيك تصدر ملايين العمال إلى الولايات المتحدة، ويشكلون عمقًا بشريًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
ما يزيد عن 60 مليار دولار تحولها الجالية المكسيكية سنويًا، ويُعاد تدويرها في دعم المشروعات الصغيرة في القرى والمدن.
ورغم التحديات السياسية والهجرة غير الشرعية، استثمرت المكسيك في تسهيل التحويلات وخفض تكلفتها، وشجعت على ادخار المغتربين وتمويل استثمارات تعود بالنفع عليهم وعلى وطنهم.
الايجابي في الامر م تصنيف الهند والمكسيك والصين والفلبين ومصر ضمن قائمة أول خمس دول مستقبلة للتحويلات philstar.com+4en.wikipedia.org+4en.wikipedia.org+4.
هل يمكن أن تسبق مصر هذه الدول ؟
إذا تبنت مصر استراتيجية واضحة مماثلة، يمكنها أن تُفعّل طاقة بشرية ضخمة تُقدّر بعشرات الملايين من الشباب القادرين على العمل في الخارج.
من المهم أن تعي الدولة أن العامل المصري ليس فقط باحثًا عن الرزق، بل سفير ناعم يحمل ثقافة مصر وقيمها. وبدل أن نخسر شبابنا في مراكب الموت، يمكننا أن نصدرهم بعزة وكفاءة إلى أسواق تبحث عنهم وتقدرهم.
وإذا فعلنا ذلك، فلن تكون وزارة القوى العاملة مجرد جهة لإصدار “كعب العمل”، بل وزارة سيادية اقتصادية محورية تضيف مليارات الدولارات سنويًا إلى خزينة الدولة، وتفتح أبواب الأمل لآلاف الأسر.
كلمة إلى رئيس الجمهورية
سيدي الرئيس،
إذا كانت مصر تبحث عن موارد اقتصادية جديدة، فإن المورد الأكبر أمامها ليس الغاز أو الذهب، بل الإنسان المصري نفسه. ووزارة القوى العاملة يمكن أن تكون وزارة “البترول البشري” إذا ما أُديرت بالكفاءة والرؤية. نحن لا نطلب ميزانية ضخمة، بل فكرًا جديدًا وإدارة حية تتجاوز البيروقراطية وتؤمن بإمكانيات المصريين.
إن فتح أسواق عمل جديدة ومبتكرة سيقلل من الهجرة غير الشرعية، ويوفر دخلًا ثابتًا للدولة، ويعزز سمعة مصر على الصعيد الدولي. المصريون في الخارج هم القوة الناعمة الحقيقية، ومن خلالها نستطيع أن نصدر ليس فقط الأيدي العاملة، بل الثقافة والفكر واللغة والنموذج المصري كله.
القوى العاملة.. قوتنا الناعمة الحقيقية
القوى العاملة المصرية هي أقوى أدوات مصر الناعمة، وأفضل ترويج للهوية والمنتج المصري. وهي، إذا أُحسن استغلالها، أكثر استقرارًا من البترول، وأكثر وفاءً من الأسواق، وأكثر ارتباطًا بالوطن من أي مورد آخر.
فلنستثمر في هذا المورد قبل فوات الأوان، قبل أن يهاجر عقل وعضل مصر بلا عودة، لأننا لم نحسن الإصغاء، ولم نعرف كيف نخطط لوزارة قادرة أن تفتح أبواب العالم أمام المصريين.