لماذا فشل اليورو في كَسْر هَيْمَنة الدولار الأميركيّ؟
حافظ إدوخراز*
يرى الأكاديميّ والباحث في الاقتصاد السياسيّ الدوليّ بنجامين كوهين (Benjamin Cohen) أنّ الهدف من تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة لم يكُن هو مجرّد الإسهام في مشروع الاندماج الأوروبيّ فقط، وإنّما كان يتعلّق كذلك بتقوية الدور الذي يضْطلع به الاتّحاد الأوروبيّ على الساحة الدوليّة من خلال خلْق مُنافِسٍ قويّ للدولار الأميركيّ الباسط هيْمنته على العلاقات النقديّة الدوليّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
ويتساءل كوهين بما أنّ الاتّحاد الأوروبيّ هو صنوٌ للولايات المتّحدة الأميركيّة في مجالَيْ الإنتاج والتجارة، فما الذي يمنع أن يكون كذلك في مجال النقود؟
في هذا السياق، ظنَّ كثيرٌ من الاقتصاديّين أنّ اليورو سيكون مُنافِساً قويّاً للعملة الأميركيّة، وأنّ ذلك سيشكِّل تهديداً لموقع الدولار الأميركي كعملة مُهَيْمِنة على منظومة النقد الدوليّ. فقد أَعلن الاقتصادي الكندي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد روبرت موندل (Robert Mundell) مثلاً، أنّ اليورو سيهدِّد مَوقع الدولار، وأنّه سيُغيِّر شكلَ منظومة النقد الدولي، ويُعيد توزيع القوّة بين أطرافها.
واعتقدَ موندل أنّ تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة هو لحظة مفصليّة، وأهمّ تطوُّر عرفته منظومة النقد الدولي منذ تعويض الدولار الأميركي للجنيه الإسترليني وتربُّعه على عرش هذه المنظومة.
من جهته، أكّد الاقتصادي الأميركي فريد بورغستن (Fred Bergsten) في فصلٍ أَسهَم به في كتابٍ صَدَرَ في العام 1997 عن صندوق النقد الدولي تحت عنوان “EMU and the International Monetary System”، أنّ إطلاق اليورو هو أهمّ تطوُّر ستعرفه منظومة النقد الدولي منذ تبنّي أنظمة الصرف العائمة في بداية سبعينيّات القرن الماضي. كان بورغستن يرى أنّ اليورو سيُصبح أوّل مُنافِس حقيقي للدولار،
بالنّظر إلى أنّ العملة الأوروبيّة تستند إلى اقتصادٍ قويّ، وأحد أكبر أسواق الرأسمال في العالَم، ولهذا فقد ظنّ أنّ خمساً إلى عشر سنوات ستكون كافية لليورو ليتحوَّل إلى عملة دوليّة على القدر نفسه من الأهميّة كالدولار. وكان بورغستن يعتقد أنّ نظاماً نقديّاً قائماً على عملتَيْن رئيستَيْن (Bipolar Currency Regime) سيرى النور، وسيحلّ مكان النظام السائد والقائم على هَيْمَنة الدولار على باقي العملات.
وظنَّ كلٌّ من الأكاديميَّيْن إريك إلاينر (Eric Helleiner) وجوناثان كيرشنر (Jonathan Kirshner) في كتابٍ صدر في العام 2009 عن مطابع جامعة كورنيا بعنوان: “مستقبل الدولار”، أنّه وللمرّة الأولى في فترة ما بعد الحرب، ستتآكل الثقة بالدولار الأميركي في بيئة تعرف وجود عملة بديلة موثوقة (اليورو).
لا ريب أنّ العملة الأميركيّة كانت، ولا تزال، عاجزة عن أداءِ دَورها كمخزنٍ موثوقٍ للقيمة في ظلّ اقتصادٍ تطبعه الأزمات الماليّة ويفتقر إلى الاستقرار، ولذلك فقد كان من المُفترض أن يَمنح اليورو للفاعلين الاقتصاديّين الدوليّين إمكانيّة تنويع محافظهم الماليّة وتوزيع استثماراتهم على نحوٍ يَضمن إدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فعاليّة.
غير أنّ استعمال اليورو في التعاملات الدوليّة يبقى متواضعاً للغاية خارج مناطق النفوذ التقليديّة لبعض بلدان منطقة اليورو (المُستعمرات الفرنسيّة سابقاً بشكلٍ أساسيّ). لذلك فإنّ حصّة اليورو في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم لا تتجاوز نسبة 20%، بينما تَصِلُ حصّة الدولار إلى حوالى 60% (إحصائيّات صندوق النقد الدولي، 2022). ويستمرّ تداوُل السلع الأساسيّة والموادّ الأوّليّة الطّاقيّة والمعدنيّة (النفط والغاز على سبيل المثال) في العالَم على نحوٍ كبير بالدولار الأميركي.
لقد أَثبتت التطوُّرات الحاصلة خلال العقد الأخير بالملموس أنّ العملة الأوروبيّة الموحّدة غير قادرة على كَسْرِ هَيْمَنة الدولار الأميركي وإنزاله عن عرشه، على الرّغم من كلّ المقوّمات الاقتصاديّة التي يملكها الفضاءُ النقدي الأوروبي (منطقة اليورو) باعتباره أكبر مصدِّر للسلع والخدمات في العالَم.
كان الأكاديمي والباحث في الاقتصاد السياسي آدم بوزن (Adam Posen) يرى، على عكس الرأي السائد، أنّ اليورو لن ينجح في مُنافَسة الدولار، وأنّ دوره في منظومة النقد الدولي لن يتجاوز الدور الذي أدَّته العملات التاريخيّة لبعض البلدان الأعضاء (المارك الألماني والفرنك الفرنسي تحديداً).
لقد عبَّر بوزن عن ذلك في كتاباتٍ عدّة، منها مقاله الأكاديمي (Why the Euro will Not Rival the Dollar) المنشور في العام 2008 في مجلّة الماليّة الدوليّة. ويهمّنا في هذا الصدد أن نقف على السبب الذي توقّف عنده بوزن وقدّمه كحجّةٍ تعضد أطروحته، بينما أغفله كثيرٌ من زملائه الأكاديميّين في حقل الاقتصاد الدولي.
رأى آدم بوزن أنّ الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها (وإن كانت ضروريّة) لتحديد موقع أيّ عملة في منظومة النقد الدولي، وأنّ ثمّة اعتبارات سياسيّة ينبغي أخذها في الحسبان. يقول بوزن في مقاله إنّ القدرات المحدودة جدّاً للبلدان الأعضاء في منطقة اليورو على مستوى التدخُّل العسكري،
وتوفير المظلّة الأمنيّة، خارج مناطق نفوذها التاريخيّة (المُستعمرات السابقة لفرنسا في أفريقيا) من شأنه أن يفسِّر الأداء الحالي لليورو، والذي لا يرقى إلى مستوى التوقّعات. يخلق هذا الوضع حافزاً ضعيفاً لدى العديد من الدول حول العالَم لإعطاء دَورٍ أكثر أهميّة لليورو في شؤونهم النقديّة، على الرّغم من علاقاتهم التجاريّة والماليّة المتميّزة مع بلدان منطقة اليورو.
تُعَدّ بلدان منطقة اليورو الشريكَ الاقتصادي الأوّل لكثيرٍ من البلدان النامية المصدّرة للموارد الطبيعيّة (الموادّ الخامّ) في أفريقيا وآسيا، وتسجِّل الموازين التجاريّة لهذه الأخيرة عجوزاتٍ كبيرة لمصلحة منطقة اليورو. ومن المفروض نظريّاً أن تقبل هذه البلدان تسوية تعاملاتها التجاريّة مع منطقة اليورو بالعملة الأوروبيّة المُشترَكة، بدلاً من المرور عبر عملة دولة أخرى هي الدولار الأميركي، مع ما يعني ذلك من تحمُّل مخاطر الصرف (تحويل الدولار إلى اليورو).
لكن إذا استحضرنا الجوانب الأمنيّة، والبُعد الجيوسياسي لعلاقة الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان مع الولايات المتّحدة، يصبح من المفهوم لماذا تبقى هذه الدول وفيّة للدولار، إمّا وفاءً للولايات المتّحدة وطَمَعاً في استمرار مظلّتها الأمنيّة التي لا يُمكن للاتّحاد الأوروبي أن يقدّم بديلاً منها، أو خوفاً من إثارة غضب الولايات المتّحدة ونقمتها عليهم، كما حصلَ للعراق في عهد الرئيس الأسبق صدّام حسين بعدما تجرّأ على تحدّي الهيْمنة الأميركيّة بمطالبته الأُمم المتّحدة (التي كانت تسهر على إدارة برنامج النفط مقابل الغذاء) بتسوية الصادرات النفطيّة للعراق بالعملة الأوروبيّة الموحّدة،
بدلاً من الدولار الأميركي (راجع مقالنا حول “دور تجارة النفط في هَيْمنة الدولار الأميركي” المنشورة في دوريّة “أفق” لشهر كانون الأوّل/ ديسمبر 2022).
فعلى الرّغم من كلّ المعارضة الفرنسيّة والألمانيّة لغزو العراق في العام 2003 (انطلاقاً من المصالح الاستراتيجيّة للاتّحاد الأوروبي، وليس حبّاً في نظام صدّام)، فإنّ ذلك لم يَمنع الولايات المتّحدة من اجتياحه حتّى من دون غطاء الشرعيّة الدوليّة التي كانت إدارة جورج بوش الابن ترغب فيه، من خلال استصدار قرارٍ من مجلس الأمن في الأُمم المتّحدة.
ومن أجل هذه الاعتبارات تحديداً، نرى بعض الدول التي تُعلن في الصحافة والإعلام منذ سنوات أنّها تتّجه نحو استبدال الدولار باليوان الصيني في تسويةِ صادراتها النفطيّة، نراها تقدِّم رِجلاً وتؤخِّر أخرى، وكأنّها تختبر عُمق الوادي الذي تنوي السَّير فيه، ولا تدري ما قد يكون ردُّ فعلِ دوائر صناعة القرار في أميركا،
وما قد يترتّب عن ذلك من عواقب على أمنها القومي. فهل من المُمكن أن تأتي الصين لحمايتها من الولايات المتّحدة في حال أَقدمت هذه الأخيرة على عملٍ عسكريّ ضدّها تحت أيّ ذريعة (تمويل إرهاب أو اضْطهاد أقليّات أو أيّ سببٍ آخر سيتمّ تعبئة الإعلام والمؤسّسات الدوليّة من أجل تسويقه) كما صنعت مع العراق؟
أرى ذلك مستبعداً على الأقلّ في الوقت الرّاهن، فالمشكلات والتحدّيات الإقليميّة للصين (تايوان أنموذجاً) أكبر من أن تسمح لها بالتورُّط العسكري في أيّ منطقة من العالَم، مهما كانت أهميّتها من الناحية الاستراتيجيّة والجيوسياسيّة.
يخبرنا التاريخ أنّ العملة المُهَيْمِنة في العلاقات الدوليّة تبقى هي عملة البلد (الإمبراطوريّة) الأقوى عسكريّاً (وإنْ تراجَعَ نسبيّاً على المستوى الاقتصادي)، إلى أن تتغيّر موازين القوّة العسكريّة في العالَم، فتحلّ عملةُ إحدى القوى الصاعدة مكانها، كما حصل عندما حلَّ الدولار الأميركي مكان الجنيه الإسترليني (عملة الإمبراطوريّة البريطانيّة التي هَيْمَنت على القرن التّاسع عشر).
لكنّ هذا التغيير، كما يؤكِّد المؤرِّخ البريطاني المعروف بول كينيدي Paul Kennedy في كتابه “The Rise and Fall of the Great Powers”، يحدث في أعقاب حربٍ عظمى تُعيد توزيع القوّة بين الدول الكبرى في العالَم (الحرب العالَميّة الثانية أنموذجاً).
فهل يكرِّر التاريخُ نفسَه وتمضي البشريّة من جديد في مُعاودة أخطاء الماضي، أم أنّ الردع النووي قادرٌ على أن يَحول دون ذلك هذه المرّة، وإقناع الجميع بأنْ لا بديل عن التفاوُض والتعاوُن في سبيلِ إرساءِ أُسسِ نظامٍ دوليٍّ جديد أكثر عدالة؟ من الصعب التنبّؤ بأيّ شيء حينما يتعلّق الأمر بالإنسان!
حافظ إدوخراز كاتب ومترجم من المغرب ، نشرة افق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي