ما الذي ينتظر الاقتصاد السوري المتعثر في مرحلة ما بعد الأسد؟
نهاية عصر وبداية جديدة للعملة.. ما هو مستقبل الليرة بعد انهيار نظام الأسد؟
تسببت الحرب الأهلية التي استمرت لأكثر من عشر سنوات في إحداث فوضى عارمة في الاقتصاد السوري، حيث فقدت البلاد مليارات الدولارات من عائدات النفط. كما أدى التضخم إلى إجبار المواطنين على حمل كميات كبيرة من النقود لشراء الاحتياجات الأساسية، ويُقدّر أن حوالي ثلث السكان يعيشون في فقر مدقع.
في الوقت الراهن، يسعى القادة الجدد في سوريا إلى إعادة الإعمار، لكنهم يواجهون تحديات كبيرة، من بينها إقناع القوى الغربية برفع العقوبات واستعادة السيطرة على قطاع النفط. لتحقيق هذه الأهداف، سيكون عليهم الحصول على دعم من الشركات والدول الأجنبية، بالإضافة إلى الاستفادة من ملايين السوريين الذين غادروا البلاد خلال فترة الحرب.
يعاني 90% من السكان من الفقر، وقد تراجعت قيمة الليرة السورية بشكل كبير، كما أن احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية، الضرورية لشراء الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والوقود وقطع الغيار، أصبحت شبه مستنفدة.
قبل اندلاع الحرب، كان النفط يمثل ثلثي صادرات سوريا، بينما كانت الزراعة تساهم بنحو ربع النشاط الاقتصادي. وفي الآونة الأخيرة، أصبحت “الكبتاجون”، وهو أمفيتامين غير قانوني ومسبب للإدمان، أكثر صادرات سوريا ربحية، حيث تسيطر عليه مجموعة من النخب المرتبطة بالنظام، .
تواجه السلطات الجديدة تحديًا كبيرًا يتمثل في توحيد الفصائل المتمردة، وإعادة تشكيل الحكومة، وإرساء سيادة القانون، بالإضافة إلى توفير الأمن وإدارة الخدمات الأساسية مثل توزيع المياه والموارد النادرة الأخرى.
ومع ذلك، هناك توافق واسع على أن الخطوة الأكثر أهمية في إعادة بناء الاقتصاد السوري لا يمكن أن تتخذ إلا من قبل الولايات المتحدة، وهي رفع العقوبات القاسية التي أدت فعليًا إلى عزل سوريا عن التجارة والاستثمار الدوليين.
الاقتصاد السوري المتعثر في مرحلة ما بعد الأسد؟
كانت القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على التدفقات المالية في عام 2019 تهدف إلى معاقبة نظام الأسد، ولكنها الآن تعيق سوريا عن الحصول على الأموال الضرورية لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.
أعلنت “هيئة تحرير الشام” عن قطع علاقاتها بشكل علني مع تنظيم “القاعدة” منذ عدة سنوات، وسعت إلى تقديم نفسها كجماعة إسلامية أكثر اعتدالاً. ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تصنفها كمنظمة إرهابية، مما أدى إلى استمرار العقوبات التقييدية المفروضة عليها. هذا الوضع يمنح هذه الدول نفوذاً في مراقبة كيفية إدارة الحكومة الجديدة للسكان المتنوعين في البلاد ومعالجتها لقضايا مثل حقوق المرأة.
أما بالنسبة لأنقرة، التي تربطها علاقات مع “هيئة تحرير الشام”، فإن دورها في إعادة إعمار سوريا قد يعزز من قطاع البناء لديها، كما أنه يتيح لها مواجهة القوات الكردية التي تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي على الحدود التركية.
قبل اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، كانت سوريا دولة تتمتع بنمو سريع وتعتبر من الدول متوسطة الدخل، حيث كانت تعاني من مستويات منخفضة من الفقر المدقع، وفقاً لتقارير البنك الدولي.
لكن نقص الوقود أدى إلى انقطاعات متكررة في الكهرباء، مما شكل تحدياً كبيراً للبلاد. كانت سوريا في السابق مصدراً صافياً للنفط، حيث كانت تحقق عائدات تتراوح بين 3 إلى 5 مليارات دولار سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً نصف عائدات صادراتها، من خلال بيع النفط بشكل رئيسي إلى أوروبا. إلا أن هذا الوضع انهار بعد عام 2011، عندما بدأ نظام الأسد حملة دموية للبقاء في السلطة عقب الاحتجاجات ضد حكمه. كما أدت العقوبات إلى تقليص المبيعات، وفقد النظام السيطرة على العديد من حقول النفط خلال فترة الحرب الأهلية. ورغم أن إيران، الشريك المقرب لنظام الأسد، ساعدت في تعويض بعض الفجوات، إلا أنها توقفت عن شحنات النفط بعد أن استولت المعارضة على بعض المناطق. وعلى طول الحدود بين سوريا ولبنان، يمكن رؤية العشرات من الأشخاص وهم يهربون عبوات البنزين.
أوضح ديفيد غولدوين، المسؤول في مجال الطاقة خلال إدارة أوباما، أن الحكومة السورية بحاجة إلى إثبات واضح لامتلاكها هذه الموارد وحقها في بيعها. كما يجب عليها ضمان الأمن اللازم لإصلاح وتشغيل البنية التحتية.
مستقبل الليرة بعد انهيار نظام الأسد؟
وأشار غولدوين إلى أن التحدي الآخر يكمن في جذب الشركات أو المشغلين الأجانب الذين يمتلكون الموارد والخبرة الضرورية لعملية إعادة البناء.
أدت سياسة نظام الأسد تجاه المناطق الثائرة إلى آثار سلبية على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد استخدامه العنف والقتل ضد المتظاهرين. فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي لسوريا من 61.3 مليار دولار في عام 2010 إلى 7.4 مليارات دولار في عام 2023، مما أدى إلى تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 300 دولار، بعد أن كان 2748 دولارًا في عام 2010، وفقًا لبيانات البنك الدولي.
إذا استطاعت الإدارة الجديدة للدولة السورية تحقيق الاستقرار الأمني واستعادة الإنتاجية بحلول عام 2025، وتسهيل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، والعمل على تشغيل المرافق العامة والبنية التحتية، فإن ذلك قد يسهم في تحسين الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ، حيث من المتوقع أن يرتفع إلى 20 مليار دولار أو أكثر وفقًا لبعض التقديرات.
أدت الحرب الأهلية وسنوات العزلة الدولية إلى تضخم كبير، حيث كان بإمكان 50 ليرة سورية شراء دولار واحد قبل الحرب، بينما وصل سعر الدولار في أواخر ديسمبر الماضي إلى 13 ألف ليرة سورية. وتستخدم العديد من الشركات آلات إلكترونية لحساب الكميات الكبيرة من النقود التي يدفع بها المستهلكون ثمن أي شيء، بدءاً من الوجبات وصولاً إلى الملابس.
في الوقت الحالي، بدأت العملات الأجنبية، التي كانت محظورة من قبل نظام الأسد، في التداول، لكنها تعاني من نقص في المعروض. ويحتاج البنك المركزي إلى احتياطات، حيث أن احتياطياته الأجنبية منخفضة جداً الآن، مما يؤثر على قدرته ليس فقط على دفع رواتب الحكومة ودعم العملة، بل أيضاً على تمويل جهود إعادة الإعمار.
ينقسم الاقتصاديون والمراقبون حول مستقبل الاقتصاد السوري، في ظل السيناريوهات المرتبطة بالتحولات السياسية في البلاد. بينما يتبنى البعض رؤية متفائلة، مستندين إلى عدة جوانب إيجابية، مثل الكوادر البشرية الماهرة وذات الخبرة، خاصة أولئك الذين عملوا في الخارج خلال سنوات الحرب. كما يشيرون إلى تنوع القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها الموارد النفطية، حيث يرون ضرورة انتقال إدارتها إلى الحكومة المركزية. من جهة أخرى، اعتبر أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلس الشيوخ الأميركي أنه من المبكر التفكير في رفع العقوبات عن سوريا بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، مما يدل على أن واشنطن من غير المرجح أن تغير سياستها في القريب العاجل.
في تقرير البنك الدولي الذي يحمل عنوان “مراقبة الاقتصاد السوري: الجيل الضائع” والصادر في يونيو 2022، تم التأكيد على أن النزاع المستمر منذ عشر سنوات قد ألحق ضرراً كبيراً بمكاسب التنمية في سوريا، حيث انخفض النشاط الاقتصادي بنسبة 50% بين عامي 2010 و2019.
كما أدى الصراع إلى تدهور البنية التحتية وزيادة نسبة الشيخوخة السكانية نتيجة النزوح الجماعي، بالإضافة إلى تراجع التماسك الاجتماعي وانقسام المناطق السورية.
وقد تأثرت رفاهية الأسر بشكل كبير جراء النزاع، حيث شهد الفقر المدقع ارتفاعاً مستمراً منذ بداية النزاع، مما يعكس تدهور فرص العيش واستنفاد القدرة على التكيف.
لقد كان للتضخم المرتفع تأثير غير متناسب على الفئات الفقيرة والضعيفة. بالإضافة إلى الآثار المباشرة للنزاع، يعاني الاقتصاد السوري من تداعيات جائحة كورونا، والأزمات الإقليمية، والاضطرابات الاقتصادية العالمية.
فيما يتعلق بالقضايا السكانية وسوق العمل، أظهر التقرير وجود نقص في عدد الذكور ضمن الفئة العمرية الرئيسية، وزيادة في مشاركة النساء في سوق العمل نتيجة لتدهور الظروف الاقتصادية، على الرغم من التحديات التي تواجهها النساء في الحصول على فرص اقتصادية متساوية.
ركز التقرير أيضًا على التحديات الكبيرة التي تواجه جمع البيانات الدقيقة في بيئات النزاع، حيث اعتمد البنك على أدوات جديدة مثل البيانات الجغرافية والبيانات عن بُعد لتقديم تقييمات أكثر دقة للتطورات الاقتصادية في سوريا.
وفي وقت سابق، أعلن صندوق النقد الدولي استعداده لمساعدة سوريا في جهود إعادة الإعمار بالتعاون مع المجتمع الدولي، إلا أن الوضع على الأرض لا يزال غير مستقر.
وأشار الصندوق إلى أنه من المبكر جدًا “إجراء تقييم اقتصادي”، حيث يتم “مراقبة الوضع عن كثب”، مؤكدًا استعداده لدعم جهود المجتمع الدولي في إعادة الإعمار الجادة عند الحاجة وعندما تسمح الظروف بذلك.
ويقر العديد من الدبلوماسيين بأن رفع العقوبات يمكن استخدامه وسيلة ضغط لضمان وفاء السلطات السورية الجديدة بالتزاماتها. كما يحرص الدبلوماسيون ومسؤولو الأمم المتحدة على تجنب تكرار الصعوبات التي واجهتهم في دول أخرى