دور قدرات الذكاء الاصطناعي والمبتكرات السحابية في تحقيق أهداف رؤية المملكة العربية السعودية للعام 2030

“يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في الأعمال التجارية حول العالم، وفي الشركات السعودية، كما يؤدي دوراً محورياً في فتح آفاق جديدة لمزودي الشبكات، بينما يطورون بنياتهم التحتية لتحقيق مستقبل أكثر ذكاءً واتصالاً” – كريس بيلي، المدير العام ومدير العمليات التنفيذي لشركة سِينّا في المملكة العربية السعودية.
اتخذت المملكة العربية السعودية خطوة حاسمة نحو ريادة الذكاء الاصطناعي من خلال إطلاق مبادرة وطنية تمثلت في تدشين نظام تشغيل “هيوماين” (HUMAIN)، بقيادة البرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات. وهذه المبادرة مظلة موحدة تجمع جهود القطاعين العام والخاص، بما في ذلك الشراكة بين “جوجل كلاود” وصندوق الاستثمارات العامة، لتسريع وتيرة تطوير وتطبيق الذكاء الاصطناعي على امتداد مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني.
كان التزام شركة أمازون لخدمات الويب (AWS)، باستثمار يتجاوز 5 مليارات دولار لبناء بنية تحتية متقدمة في مجالي الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية من خلال “هيوماين”، من أبرز الإعلانات الصادرة ضمن هذه المبادرة، إذ يهدف إلى دعم الابتكار المحلي وتزويد الشركات السعودية بحلول قابلة للتوسع والتطوير تستضيفها شركات سعودية.
وفي تعزيز إضافي للمكانة الاستراتيجية للمبادرة، أبرمت قيادة “هيوماين” اتفاقية مهمة مع شركة نفيديا (NVIDIA)، بهدف التوسع في جهود البحث والتطوير، وتدريب الكفاءات، وتسهيل الوصول إلى منصات الذكاء الاصطناعي عالية الأداء، مما يعزز مكانة المملكة كقوة صاعدة على الساحة العالمية في هذا المجال.
وبالتوازي مع تلك المستجدات، أكدت شركة أوراكل التزامها طويل المدى بتحقيق رؤية المملكة 2030، معلنةً عن استثمار بقيمة 14 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة لتعزيز قدرات المملكة في مجالي الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. ومن المتوقع أن تسهم هذه الاستثمارات في تحقيق مجموعة من الأهداف الوطنية، تشمل تسريع الابتكار، وترسيخ السيادة الرقمية، وتحسين جودة الحياة للمواطنين السعوديين.
في تلك الأثناء، تشهد المدن السعودية تحولاً متسارعاً نحو أنظمة حضرية متقدمة تقنياً، بدعم من هذه السياسات التي تستشرف المستقبل، حيث أصبح الهدف هو أن يعيد الذكاء الاصطناعي تعريف أنماط الحياة والعمل اليومية. وفي صميم هذا التحول الطموح تستهدف المملكة الوصول إلى 15% من أسطول المركبات ذاتية القيادة وذلك من إجمالي عدد مركبات النقل العام لديها بحلول عام 2030، بدعم من مشاريع كبرى من الجيل التالي تشمل المركبات ذاتية القيادة، وسيارات الأجرة الطائرة، وكبسولات التنقل الذاتية.
وبعد أن أصبحت شراكة جوجل كلاود وصندوق الاستثمارات العامة جزءاً من “هيوماين”، من المتوقع أن تسهم في تعزيز قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات في المملكة بنسبة قد تصل إلى 50%، لتعزز الدور الاستراتيجي للذكاء الاصطناعي في صياغة مستقبل الاقتصاد السعودي.
توسيع البنية التحتية وتطويرها وصقل المهارات لمواكبة عصر الذكاء الاصطناعي
مع تزايد أهمية الذكاء الاصطناعي كمحرك رئيسي للتحول الرقمي، باتت مراكز البيانات تشكل عنصراً محورياً في هذا التحول، وأحد أكثر القطاعات خضوعاً لتغيرات هيكلية متسارعة. ويشير استقصاء حديث لشركة سينا إلى أن ارتفاع حجم أحمال العمل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي يزيد من الطلب على البنية التحتية لشبكات الجيل التالي، إذ يتوقع الخبراء زيادة بنسبة 50% في متطلبات عرض النطاق الترددي لربط مراكز البيانات خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
ويزداد هذا النمو بشكل مضطرد نتيجة للتوسع الهائل في حجم البيانات الناتجة عن أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأجهزة إنترنت الأشياء، والمجموعة الواسعة من التقنيات المتصلة بالإنترنت. ويفرض هذا الواقع ضغوطاً متنامية على مراكز البيانات المركزية والشبكات الداعمة لها، مما يستدعي إعادة تصور سريع لمقاييس البنية التحتية ومواقع انتشارها بما يلبي حجم الطلب.
بات من الضروري للحفاظ على مستويات الأداء المطلوبة من قبل المستخدمين والأنظمة على حد سواء، تقريب مقار مراكز البيانات من نقاط الطلب. وتعكس هذه النقلة الاستراتيجية تحول مزوّدي خدمات الحوسبة السحابية عالمياً من مراكز إقليمية مركزية إلى مواقع سحابية مفتوحة موزعة عبر مدن متعددة، بما يتماشى مع احتياجات عرض النطاق الترددي المتنامية.
على الجانب الآخر، تتحرك شركات التقنية العالمية الكبرى مثل أمازون لخدمات الويب ومايكروسوفت وجوجل لتوسيع نطاق بنيتها التحتية السحابية في منطقة الشرق الأوسط، بضخ استثمارات تتجاوز 5.3 مليارات دولار، بهدف ترسيخ حضور قوي في المنطقة. ومن أبرز هذه الخطوات، اعتزام أمازون إطلاق منطقة بنية تحتية في المملكة بحلول عام 2026، لتوفير سعات مراكز بيانات محلية تدعم الشركات السعودية والمطورين والخدمات المعتمدة على الحوسبة السحابية.
مع ذلك، لا يمكن لطموحات المملكة ونجاحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي أن تعتمد على البنية التحتية وحدها. فنجاح هذه الطموحات على المدى البعيد مرهون بقدرة المملكة على تنمية كوادر بشرية ماهرة ومؤهلة لمتطلبات المستقبل. وفي هذا الإطار، جاري العمل على تطوير مركز وطني للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع جوجل كلاود و من المتوقع أن يوفر آلاف الوظائف في مجالات متعددة مثل علوم البيانات، وتعلم الآلة، وهندسة الذكاء الاصطناعي، وأخلاقياته. كما تعزز هذه الجهود خطط شاملة لتوسيع نطاق التعليم في مجال الذكاء الاصطناعي في مختلف أنحاء المملكة، من خلال تنفيذ برامج تدريبية تستهدف ملايين الطلاب والمهنيين.
ارتباط متبادل بين الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية
رغم أنهما يُذكران معاً في الغالب، إلا أن من المهم أن نميز بين دور الذكاء الاصطناعي ومهام الحوسبة السحابية في مسيرة التحول الرقمي في السعودية. فتوفر الحوسبة السحابية البنية التحتية الأساسية؛ أي نظام مرن وقابل للتوسع والتطوير عند الطلب لتخزين كميات ضخمة من البيانات وإدارتها وتوزيعها. وهي المحرك الرئيسي للخدمات الرقمية في مختلف القطاعات، مما يتيح وصولاً سلساً للمؤسسات والمطورين والجهات الحكومية على حد سواء.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو طبقة الذكاء التي تُبنى فوق هذا الأساس الرقمي. ومن خلال الاستفادة من البيانات المستضافة عبر المنصات السحابية، تمكّن تقنيات الذكاء الاصطناعي الأنظمة من تحليل الأنماط، وأتمتة القرارات، وتشغيل تطبيقات متقدمة الذكاء؛ مثل الصيانة التنبؤية في القطاع الصناعي، والرعاية الصحية المُخصّصة، وتحسين حركة المرور في المدن الذكية لحظياً.
تعزز هاتان التقنيتان بعضهما، رغم اختلاف وظيفتيهما. فيعتمد الذكاء الاصطناعي على القوة الحاسوبية وسهولة الوصول التي توفرها الحوسبة السحابية، في حين تزداد قيمة الخدمات السحابية بالقدرات المعززة بالذكاء الاصطناعي. وتشكل هاتان التقنيتان معاً البنية التحتية التقنية التي تبني عليها المملكة اقتصاداً أكثر تنوعاً ومعرفة؛ وهو الركيزة الأساسية لاستراتيجية رؤية المملكة 2030.
تحويل الذكاء الاصطناعي إلى مصدر عائد استثماري
يتفق أغلبنا على أن الذكاء الاصطناعي يمتلك قدرات من شأنها تحقيق تغيير جذري في قطاع الاتصالات، إلا أن مسألة تحقيق عائد استثماري فعلي منه لا تزال قيد الدراسة. ومع تنامي دوره المحوري في تحسين أداء الشبكات وعمليات التشغيل، بدأ الحوار يتحول من التركيز على خفض التكاليف فقط إلى آفاق أوسع تشمل توليد الإيرادات.
هنا، بدأت تتضح ملامح عدد من المسارات الاستراتيجية لتحقيق أرباح من الذكاء الاصطناعي، من بينها إتاحة خدمات الشبكات لأطراف أخرى، وتقديم خدمات مدعومة بالذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الأمن السيبراني وحماية البيانات، كمصادر محتملة لإيرادات جديدة. ومن المتوقع أن تساهم قطاعات مثل الخدمات المالية، والإعلام، والترفيه، والتصنيع في توليد حركة المرور الأكبر للبيانات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، ما يجعلها أهدافاً طبيعية لجهود تحقيق العائد التجاري مستقبلاً.
وقد أعلنت مجموعة stc السعودية مؤخراً عن عقد شراكة استراتيجية مع كوهير (Cohere)، الشركة العالمية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي الآمن للمؤسسات؛ بهدف تطوير عمليات مجموعة stc المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في تعزيز تجربة العملاء، وإتاحة فرص نمو رقمية جديدة. وتؤكد هذه الشراكة أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح ضرورة تنافسية في اقتصاد رقمي سريع التحول. وعلى نطاق أوسع، تعكس هذه التحركات نظرة إيجابية بعيدة المدى لمشغلي الاتصالات للتخطيط الاستراتيجي والاستثمار في البنية التحتية، لضمان أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تشغيلية ومصدراً مستداماً لتحقيق القيمة.
تمكين رؤية المملكة 2030 في مجال الذكاء الاصطناعي
مع تعمق السعودية في تنفيذ أجندة تنويع الاقتصاد، يبرز الذكاء الاصطناعي محفزاً قوياً يُسهم في تعزيز الترابط الرقمي، وتسريع وتيرة الابتكار، وتعزيز القدرة التنافسية للمملكة على الساحة العالمية. ويتمثل المسار الأمثل للمضي قدماً في بناء منظومة تعاونية، تلتقي فيها البنية التحتية الرقمية الذكية مع الكفاءات الوطنية عالية التأهيل والإطار التنظيمي المطور الداعم.
مر نحو عقد منذ إطلاق رؤية المملكة 2030، وتقف السعودية اليوم على أعتاب تتجاوز طموحاتها الأولى. ويكمن الذكاء الاصطناعي في صميم هذا التحول؛ فهو ليس مجرد أداة، بل قوة تغيير حقيقية تقود انتقال المملكة من اقتصاد تقليدي قائم على النفط إلى مركز حيوي للإمكانات الرقمية التي لا حدود لها.